السودان: بحيرة مالحة ومئات المواقع الجديدة.. باحثون بولنديون يكشفون تاريخ صحراء بيوضة
العثور على بقايا كوخ مع ملحق من العصور الوسطى

دنقلا | برق السودان
اكتشف باحثون بولنديون يعملون في صحراء بيوضة بالسودان بحيرة قديمة مالحة، كان يُستخرج منها معدن نادر يُعرف بـ”النطرون”. وقد استُخدم النطرون، من بين استخدامات أخرى، في تحنيط الجثث وصناعة الزجاج والسيراميك. ومن خلال عمل استمر لعدة سنوات، تمكن الباحثون من تحديد أكثر من 1200 موقع أثري جديد، من بينها أكثر من 400 موقع تم اكتشافه ضمن مشروع مركز العلوم الوطني البولندي.
وتُعد صحراء بيوضة، الواقعة في الجزء الأوسط من السودان، من بين أقل المناطق استكشافًا في البلاد. إذ بدأت الأبحاث الأثرية المتفرقة فيها في منتصف القرن العشرين، لكن لم تبدأ الأعمال المنهجية إلا في القرن الحادي والعشرين.

وقد قام علماء آثار بولنديون من جامعة فروتسواف، والمركز البولندي لعلم الآثار المتوسطية بجامعة وارسو، ومتحف غدانسك للآثار، بتنفيذ بحوث ميدانية واسعة النطاق في مواقع مختارة من الصحراء لأكثر من ست سنوات. وبلغ عدد المواقع الأثرية التي اكتشفوها أكثر من 1200 موقع.
وفي إطار مشروع “المجتمعات ما قبل التاريخ في صحراء بيوضة – آفاق جديدة لمملكة كرمة” الممول من المركز الوطني للعلوم في بولندا، اكتُشف 448 موقعًا وتم التحقق من 126 موقعًا معروفًا سابقًا. كما جرت أعمال تنقيب في 88 موقعًا، من بينها 36 مقبرة و55 مستوطنة، تعود لفترات تمتد من العصر الحجري القديم حتى العصور الوسطى.

وقد نُشرت الخلاصة العامة لنتائج هذا العمل في مجلة Antiquity، كما نُشرت النتائج الأولية في دورية Nubia (في مجلد بعنوان “بيوضة وجيرانها”).
يقول الدكتور هنريك بانر، رئيس المشروع البحثي من المركز البولندي لعلم الآثار المتوسطية بجامعة وارسو:
كشفت الأبحاث الأثرية حتى الآن في صحراء البيوضة عن العديد من المواقع الأثرية الجديدة، تقع على أطراف الصحراء وداخلها بعيدًا عن وادي النيل. وتوفر هذه المواقع بيانات ثمينة عن آلاف السنين من الاستيطان والتغيرات الثقافية والبيئية والمناخية في صحراء البيوضة، بالإضافة إلى تحولات المناظر الطبيعية الطبيعية والثقافية لهذا المكان
الدكتور هنريك بانر – رئيس المشروع البحثي من المركز البولندي لعلم الآثار المتوسطية بجامعة وارسو
ومن أبرز الاكتشافات المتعلقة بتغير المناخ: بحيرة قديمة تقع في الجزء الأوسط من بيوضة، وعظام حيوانات السافانا في موقع من العصر الحجري المتوسط (الذي امتد من نحو 11 إلى 7 آلاف سنة قبل الميلاد)، وبقايا حشرات (خنافس) عُثر عليها داخل إناء فخاري في مقبرة تعود لثقافة كرمة (مملكة قديمة وجدت في الفترة من 2500 إلى 1500 قبل الميلاد). وتشير هذه الاكتشافات إلى مناخ أكثر رطوبة بكثير مما هو عليه اليوم، لا سيما في القرون الأولى من مملكة كرمة.
وأظهرت الأبحاث التي أجريت في مجمع الحقول البركانية أن البحيرة الملحية المكتشفة هناك، الواقعة بالقرب من جبل المويلحة (جبل الملح)، كانت موقعًا لاستخراج معدن نادر – النطرون.
يشرح بانر:
«النطرون هو معدن كربونات الصوديوم، ويوجد في عدد قليل جدًا من المناطق حول العالم. وفي شمال إفريقيا، يُعد وادي النطرون في مصر أحد المصادر الرئيسية لهذا المعدن. وكان يُستخدم في مصر القديمة لتحنيط الجثث وصناعة الزجاج والسيراميك. ويتطلب هذا الاكتشاف إعادة تحليل طرق الاتصال القديمة بين الحقول البركانية والنيل والمناطق الشمالية، في سياق احتمالات التبادل التجاري مع مصر».

أما أقدم المواقع الأثرية، التي تعود إلى العصر الحجري القديم، فتقع في شمال غرب وجنوب شرق بيوضة.
وتتضمن هذه المواقع أدوات حجرية تنتمي إلى تقاليد ثقافة “الأولدوان”، وهي أقدم ثقافة في العصر الحجري القديم، وتعود إلى ما بين 2.6 و1.7 مليون سنة قبل الميلاد. كما تحتوي على آثار لورشة من ثقافة الأشولي، التي كانت تصنع رقائق كبيرة وأدوات لاستخدامات متعددة.
وتُظهر الأبحاث أن عمليات التصنيع استمرت في هذه المنطقة أيضًا خلال العصر الحجري الأوسط (حوالي 300 ألف – 50 ألف سنة مضت). ويتجلى ذلك في أساليب تصنيع الأدوات الحجرية بتقنية “لفالوا”، وهي تقنية تتطلب خطوات متعددة لتشكيل النواة الحجرية لاستخراج رقائق ذات شكل مقصود.

يعلق بانر:
«يتطلب استخدام هذه التقنية خطوات عديدة لصياغة النواة بشكل دقيق للحصول على شظية واحدة ذات شكل محدد. وهذا يدل على الحضور المبكر للإنسان العاقل (هومو سابيان) في هذه المنطقة من إفريقيا».
أما المقبرة الوحيدة التي تعود للعصر الحجري المتوسط والمكتشفة حتى الآن في البيوضة، فتقع في الجزء الأوسط منها، على منحدر جبل الغرة، وتحتوي على 16 دفنًا على الأقل لأشخاص بالغين، موزعة على ثلاث أو أربع طبقات.
وتُظهر نتائج التاريخ بالكربون المشع أن هذه المقبرة استُخدمت في الألفية السابعة إلى السادسة قبل الميلاد. وقد عُثر في القبور على أصداف وبندول حجري وخرز مصنوع من قشر بيض النعام. وتم تحديد نفس التسلسل الزمني لمنطقة تُعرف بـ”مستوطنة الصيادين”، تقع في الجزء الشرقي من الصحراء عند سفح جبل الفويل. وقد تم اكتشاف حوالي 300 قطعة من عظام الحيوانات، وما يقرب من 3400 قطعة أثرية حجرية، ونحو 2000 قطعة فخارية في هذا الموقع. وكل العظام تعود لحيوانات برية وقد تم تأريخها بالكربون المشع إلى حوالي 6 آلاف سنة قبل الميلاد.