تقرير | برق السودان
منذ اندلاع الحرب في السودان، تتراكم الخسائر الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية بوتيرة متسارعة، بينما تُغلق أمام المواطنين أبواب الأمن والاستقرار والخدمات الأساسية. ومع تفاقم الأزمة، يبرز سؤال مركزي: كيف يمكن للسودان الخروج من دائرة الانهيار؟
تتعدد الإجابات، لكن الاتجاه الغالب لدى الخبراء والفاعلين الدوليين والسودانيين أنفسهم يشير إلى مسار واحد: الانتقال نحو إدارة مدنية مؤسسية قوية، تُبعد القرار الوطني عن ثنائية العسكرة والميليشيات، وتعيد بناء الدولة على أسس المواطنة والعدالة وسيادة القانون.
وسط غبار الدمار، تختبئ مآسٍ لا تُحصى.. التقارير القادمة من دارفور والخرطوم تحمل أسماء وأعماراً وأوجاعاً لا أرقاماً مجردة
وفي ظل الكارثة الممتدة، لم تعد الحروب مجرد صراع بين قادة؛ بل أصبحت قصص آلاف الضحايا في دارفور والخرطوم شاهداً يومياً على ضرورة تغيير جذري يضع حياة البشر وحقوقهم فوق الحسابات السياسية والعسكرية.
الإدارة المدنية المؤسسية هي السبيل لاستعادة الخدمات وبناء اقتصاد مستدام
أثبتت تجارب السنوات الأخيرة أن نموذج الحكم المسنود بالقوة العسكرية — سواء عبر الجيوش أو الميليشيات — لا ينتج دولة ولا يحقق أمناً ولا ينقذ اقتصاداً. فقد شُلّت مؤسسات الدولة، تعطلت سلاسل الإمداد، توقفت الخدمات الصحية، وتراجعت الإيرادات العامة إلى أدنى مستوياتها.
الإدارة المدنية المؤسسية، بعكس ذلك، تقدم رؤية مختلفة تقوم على:
إعادة بناء مؤسسات مهنية محايدة تعمل وفق القانون لا الولاءات.
استعادة الخدمة المدنية كعمود فقري للتعليم والصحة والمياه والكهرباء.
تفعيل الرقابة والمحاسبة لإغلاق أبواب الفساد التي توسعت بفعل غياب المؤسسات.
إعادة دمج الاقتصاد السوداني في محيطه الإقليمي والدولي عبر سياسات شفافة وتوقعات مستقرة.
إطلاق إصلاحات اقتصادية متدرجة تحمي الفقراء وتعيد الحياة للقطاع الإنتاجي الزراعي والصناعي.
إن هذه الرؤية ليست ترفاً سياسياً، بل ضرورة لدولة تواجه أكبر كارثة إنسانية في تاريخها الحديث، حيث يعاني الملايين من انعدام الأمن الغذائي، ويُحرم السكان من الدواء والمأوى والخدمات الأساسية.
قصص الضحايا: الدليل الإنساني الأكبر على الحاجة لمسار مدني لا عسكري
وسط غبار الدمار، تختبئ مآسٍ لا تُحصى. التقارير القادمة من دارفور والخرطوم تحمل أسماء وأعماراً وأوجاعاً، لا أرقاماً مجردة.
في الفاشر، أمٌّ فقدت ثلاثة من أطفالها عندما سقطت قذيفة على منزلهم المتواضع وسط حيّ مكتظ بالنازحين. كانت الأسرة قد هربت سابقاً من منطقة أخرى، لتجد نفسها في مواجهة الموت مجدداً.
وفي الخرطوم، روى أحد الأطباء أن مستشفىً كاملاً أُخلي بعد نفاد الأكسجين، ليموت مرضى العناية المركزة في صمت، بسبب حصارٍ عسكريٍّ حال دون وصول الإمدادات.
هذه القصص — التي تتكرر كل يوم — ليست أحداثاً عشوائية. إنها نتيجة مباشرة لقرارات قيادية عسكرية وسياسية تُخضع المدنيين لحرب لا يملكون فيها صوتاً ولا حماية. ولذلك، فإن المساءلة ليست شعاراً؛ بل أساس لأي انتقال حقيقي يعترف بآلام الضحايا ويمنع تكرارها.
سيناريو الخروج: دولة مدنية بمؤسسات حقيقية
لكي يخرج السودان من الحرب، لا بد من عملية سياسية شاملة، تضع المدنيين في مقعد القيادة، وتبني دولة جديدة قائمة على:
1. وقف فوري للحرب بضمان دولي وإقليمي قوي
2. إصلاح مؤسسي شامل يعيد بناء الأجهزة العدلية، المالية، والخدمية
3. عدالة انتقالية حقيقية تُوثق الانتهاكات وتُحاكم المسؤولين عنها
4. دمج وتسريح القوات غير النظامية وبناء جيش وطني مهني واحد
5. برنامج اقتصادي يستعيد الإنتاج ويعيد الثقة للمستثمرين والمواطنين
هذه ليست مطالب سياسية فقط، بل الأرضية الوحيدة الممكنة لإنقاذ السودان من الانهيار الكامل.
كل يوم يمر يضع السودان أمام مفترق حاسم: إما الاستمرار في الدوامة العسكرية التي تفتك بالمدن والقرى، أو التوجه نحو إدارة مدنية مؤسسية تُعيد للدولة روحها وللمواطنين حقهم في الحياة الكريمة.
الضحايا الذين سقطوا في دارفور والخرطوم ليسوا هامشاً في المشهد؛ بل هم البوصلة الأخلاقية التي تفرض على الجميع التوقف وإعادة التفكير.
الحل مدني.. مؤسسي.. شامل — وجاء الوقت للبدء فيه قبل أن يفقد السودان ما تبقى له.



