
تكنولوجيا | برق السودان
في وقت يشهد فيه العالم تحولاً متسارعاً نحو الرقمنة، يقف الذكاء الاصطناعي في صدارة الأدوات التي تعيد تشكيل صناعة الإعلام والأخبار. فمن كتابة المحتوى بشكل آلي، إلى تخصيص الأخبار للمستخدمين، وحتى التنبؤ باتجاهات الرأي العام، باتت تقنيات الذكاء الاصطناعي حاضرة في كل تفاصيل العملية الإعلامية، فاتحة الباب أمام آفاق واسعة، لكنها تثير أيضاً تساؤلات أخلاقية ومهنية حادة حول مستقبل الصحافة كما نعرفها اليوم.
الذكاء الاصطناعي في غرف الأخبار: كفاءة وسرعة بلا حدود
شهدت السنوات الأخيرة استخدامًا متزايدًا للذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار، حيث تعتمد وكالات كبرى مثل “رويترز” و”أسوشيتد برس” على أنظمة آلية لتحرير الأخبار القصيرة، خاصة في المجالات الرياضية والمالية، التي تتطلب سرعة في التغطية ودقة في الأرقام.
تسمح هذه التقنية بإنتاج المئات من المواد الخبرية خلال ثوانٍ، ما يتيح للمؤسسات الإعلامية التركيز على القصص الاستقصائية والمعمقة.
كما باتت أدوات تحليل البيانات الكبيرة Big Data، التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، قادرة على تتبع المزاج العام للجمهور، وتحليل ملايين التغريدات أو التعليقات لتحديد الاتجاهات السياسية أو الاجتماعية، وهو ما يعزز قدرة الإعلام على استباق الأحداث أو قياس تفاعل الجمهور مع السياسات والأزمات.
محتوى مخصص لكل مستخدم: التجربة الإعلامية تدخل مرحلة “الذكاء الوكيل”
مع التطور الكبير في تقنيات التعلُّم الآلي، أصبح بالإمكان تقديم محتوى مخصص حسب تفضيلات كل مستخدم. إذ تقوم خوارزميات التوصية بتحليل سلوك القراء، وتقديم أخبار تتماشى مع اهتماماتهم، ما يجعل تجربة القراءة أكثر تفاعلاً وشخصنة.
ومع تطور ما يُعرف بـ”الذكاء الوكيل” (Agentic AI)، من المتوقع أن تظهر قريبًا منصات إعلامية ذكية تدير تجربة المستخدم بالكامل: من اختيار الأخبار إلى ترتيب الأولويات، بل وحتى تقديم ملخصات صوتية أو مرئية مخصصة.
لكن هذا التطور يفتح باباً واسعاً للمخاوف من ظاهرة “فقاعات الرأي”، حيث يتلقى المستخدمون فقط ما يؤكد أفكارهم، ما يعزز الانغلاق ويقوض التنوع الإعلامي.
تهديدات أخلاقية ومخاطر التزييف العميق
إلى جانب الفرص الكبيرة، لا يمكن تجاهل التحديات التي ترافق هذه الثورة. إذ تشكّل تقنية “التزييف العميق” (deepfake) أحد أبرز التهديدات، حيث بات بالإمكان إنتاج فيديوهات أو تسجيلات صوتية مزيفة لشخصيات سياسية وإعلامية تبدو واقعية تمامًا.
هذا النوع من التلاعب يمثل تهديدًا مباشرًا لمصداقية الأخبار ويصعّب مهمة التحقق من صحة المحتوى.
وفي ظل هذا الواقع، تبرز ضرورة فرض تشريعات واضحة تلزم المؤسسات الإعلامية بالإفصاح عن استخدام المحتوى الآلي، وتضمن حماية حقوق الملكية الفكرية للصحفيين الأصليين الذين قد يتم تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي على أعمالهم دون إذن أو تعويض.
بين الزوال والتحول: مستقبل مهنة الصحافة في ظل الأتمتة
تشير التقديرات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى إلغاء عدد من الوظائف الإعلامية التقليدية، خاصة تلك التي تعتمد على التكرار أو النمذجة مثل كتابة الأخبار الروتينية أو تحرير الصور والفيديوهات.
لكن في المقابل، يفتح المجال أمام تطوير أدوار جديدة مثل “محرر خوارزميات”، “مدقق محتوى آلي”، و”صحفي بيانات”، ما يعني أن الصحافة لن تزول، بل ستتحول إلى شكل جديد يحتاج إلى مهارات رقمية وتقنية متقدمة.
ويرى خبراء الإعلام أن المستقبل لن يكون لمن يرفض الذكاء الاصطناعي، بل لمن يتقنه ويطوعه لخدمة القيم الصحفية الأساسية، من التحقق والموضوعية إلى خدمة الحقيقة والمصلحة العامة.
الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا بقدر ما هو فرصة لإعادة ابتكار الإعلام، شرط أن يُستخدم بمسؤولية وتحت إشراف بشري أخلاقي. فبينما يفتح أبوابًا مذهلة للإبداع والتفاعل، يفرض في الوقت نفسه تحديات تتطلب يقظة قانونية ومهنية لضمان بقاء الصحافة صوتًا حراً موثوقاً في زمن السرعة والذكاء الخارق.