السودان «على طريق زلقة» نحو اتفاق يعيد العسكريين إلى الثكنات
الخرطوم | برق السودان
بعدما عاد العسكريون السودانيون إلى منصة التفاوض مع تحالف المعارضة «الحرية والتغيير»، بفعل ضغوط دولية ومحلية عنيفة جداً، جرى «أخيراً» تداول تسريبات و«تلميحات» عن قرب التوصل إلى توافق ينتهي بموجبه «انقلاب» أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وتشكيل حكومة مدنية بصلاحيات كاملة مع ذهاب العسكريين لما اصطلح عليه «مجلس الأمن والدفاع». إلا أن تلك التلميحات -التصريحات ظلت تراوح مكانها لأكثر من شهرين من دون بروز «أفق حل» للفراغ السياسي الذي يعيشه السودان منذ أكثر من سنة، في حين انقسمت القوى السياسية بين قادة العملية السياسية، وبين قادة الاحتجاجات الرافضين لأي «تفاوض، أو اعتراف، أو شراكة» مع العسكريين الذين يحكمون البلاد.
يوم 25 أكتوبر من العام الماضي، فاجأ قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، الذي يشغل أيضاً منصب رئيس «مجلس السيادة»، المواطنين السودانيين بإجراءات أطلق عليها صفة «إصلاحية»، وقال، إنه اتخذها لـ«تصحيح مسار الثورة» الذي أفسده «تشاكس المدنيين».
وبناءً على تلك الإجراءات، والقرارات، عُلّقت نصوص في «الوثيقة الدستورية» وأعلنت حالة الطوارئ في البلاد، وجرى حل كل من «مجلس السيادة» وحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وحكومات الولايات، واعتُقل بعض الأعضاء المدنيين في «مجلس السيادة» وبعض الوزراء بمن فيهم حمدوك، وعدد من القادة السياسيين في التحالف الحاكم.
كردة فعل على تلك الإجراءات، خرج آلاف السودانيين قبل إذاعة «بيان البرهان» رفضاً للخطوة التي اعتبروها «انقلاباً عسكرياً» على الحكومة الانتقالية المدنية. بيد أن القوات الأمنية، أي الجيش والشرطة وقوات «الدعم السريع» والأمن وغيرها، واجهتهم بعنف مفرط مستخدمة الرصاص والذخيرة الحية، وقتلت منهم 3 على الأقل وأصابت أكثر من مائة آخرين بالقرب من بوابة القيادة العامة للجيش بوسط العاصمة الخرطوم.
-«بيان الانقلاب»
في منتصف نهار ذلك اليوم على وجه التقريب، تلا البرهان «بيان الانقلاب» على التلفزيون الحكومي، مشيراً فيه إلى ما أسماه «انقسامات تنذر بخطر وشيك يهدد أمن الوطن». وأعلن استيلاء القوات المسلحة على الحكم طوال المرحلة الانتقالية إلى حين تسليمه لحكومة منتخبة، كما وعد بتشكيل «حكومة كفاءات» بديلة لحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وإكمال مؤسسات الانتقال كافة في غضون شهر.
غير أن انقلاب البرهان جوبه برفض شعبي عنيف من قبل تحالف المعارضة ولجان المقاومة الشعبية ومنظمات المجتمع المدني كافة. وعلى الفور اعتبره الاتحاد الأفريقي «انقلاباً عسكرياً» وعلّق بموجبه عضوية السودان، في حين انتقدته الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأميركية ودول غربية، وسارعت بوقف برنامج المساعدات الاقتصادية الذي كانت خصصته لدعم الانتقال المدني في السودان.
بسبب هذه الضغوط، فشل البرهان في الإيفاء بأي من تعهداته، التي سبق أن أعلنها في بيان الانقلاب، والمتمثلة في تشكيل حكومة كفاءات وإكمال مؤسسات الانتقال، وخلق استقرار أمني واقتصادي. وإزاء هذا الفشل، اضطر الرجل إلى توقيع اتفاق مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، نص على استعادة الحكم المدني، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتأليفه حكومة مدنية. لكن الاتفاق لم يلقَ أي سند أو تأييد شعبي، لا سيما من تحالف المعارضة «الحرية والتغيير» ولا القوى المجتمعية والشبابية؛ ما اضطر رئيس الوزراء إلى الاستقالة في 2 يناير (كانون الثاني) 2022 بخطاب بثه التلفزيون الرسمي.
قال حمدوك في خطاب استقالته، إنه حاول بقدر المستطاع تجنيب البلاد الانزلاق نحو الكارثة، بسبب الصراعات العدمية بين مكونات الانتقال، وفشل جهوده في تحقيق توافق بينها، وأضاف «قررت أن أرد إليكم أمانتكم وأعلن لكم استقالتي من منصب رئيس الوزراء، مُفسحاً المجال لآخر من بنات أو أبناء هذا الوطن المعطاء، لاستكمال قيادة وطننا، والعبور به خلال ما تبقى من عمر الانتقال نحو الدولة المدنية الديمقراطية».
-تداعيات استقالة حمدوك
إلا أن استقالة حمدوك لم تضع الحصان أمام العربة. بل نتج منها تفاقم فشل القيادة العسكرية، وتركها وحيدة تواجه نتائج الضغوط العنيفة التي ظلت تمارسها عليها القوى الدولية والإقليمية، وكذلك استمرار الحراك الشعبي المناهض، الذي لم تتوقف احتجاجاته طوال العام الماضي، ولم يفلح معه العنف المفرط الذي واجهت به القوات العسكرية المحتجين، رغم مقتل 119 محتجاً سلمياً بالرصاص، وإصابة المئات بجراح بعضها خطيرة، بل فاقم الأزمة.
وكنتيجة حتمية، تدهورت الأوضاع الأمنية في البلاد بشكل مريع. وصارت «العصابات المسلحة» تعترض طريق المواطنين وتهجم على منازلهم وتستولي على ممتلكاتهم، من دون تدخل من قوات الأمن والشرطة. وأيضاً، دخل الاقتصاد السوداني في نفق مظلم بعد توقف المعونات والدعم الذي كان يقدمه المجتمع الدولي للحكومة الانتقالية، فازدادت الأزمة الاقتصادية حدة.
أكثر من هذا، سارعت صناديق التمويل الدولية مثل البنك الدولي و«نادي باريس» إلى تجميد تعهدات مالية تقدر بمليارات الدولارات تعهدت بتقديمها إلى السودان، كما أوقف برنامج إعفاء الديون؛ ما أدى إلى غلاء طاحن وركود اقتصادي كبير، تدهورت بموجبه أسعار صرف العملة المحلية «الجنيه» بشكل غير مسبوق.
وبالتالي، اضطرت الحكومة في ضوء هذا الوضع، إلى فرض المزيد من الضرائب على المواطنين من أجل تمويل مصاريفها، ما زاد من اشتعال الغضب الشعبي. وبالفعل، دخلت البلاد في سلسلة إضرابات بين المهنيين والخدمة المدنية زادت الشلل المصابة به شللاً. بل واضطر التجار ورجال الأعمال إلى الدخول في إضرابات، وأغلقوا محالهم وتجارتهم احتجاجاً على الضرائب الباهظة المفروضة عليهم، وشوهدت المتاجر وهي مغلقة للمرة الأولى في أكثر من مدينة سودانية.
-انقسام المعارضة وفشل جمع العسكريين والمدنيين
مع تصاعد الاحتجاجات المناوئة للانقلاب، فإن الشارع المعارض انقسم على نفسه إلى مجموعتين متنافستين، هما: مجموعة «تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» التي تقاسمت السلطة مع العسكريين قبل الانقلاب، ومجموعة الحزب الشيوعي السوداني.
«تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير» لا يرفض مبدأ التوصل إلى اتفاق مع العسكريين، بل يقول، إنه يعمل على استرداد الدولة من العسكر، ومواصلة المعارضة المدنية، وممارسة التصعيد السياسي من الجهة الأخرى، بجانب الضغط من أجل الوصول لإنهاء الانقلاب عبر التفاوض.
في المقابل، ترفض مجموعة الحزب الشيوعي و«لجان مقاومة» تتحرك تحت مسمى «تحالف قوى التغيير الجذري» التفاوض مع العسكريين من حيث المبدأ. وهي ترفع شعار «لا تفاوض، ولا شراكة، ولا اعتراف» مع العسكريين، وتزعم أنها تعمل على إسقاط الانقلاب عبر العمل السلمي وصولاً لإضراب سياسي وعصيان مدني، يسقطه ويحقق العدالة، ويعيد العسكريين إلى الثكنات، ويحاكم قتلة «الشهداء».
وفي الوسط، بين الأفرقاء المعنيين… أي «الانقلاب» و«الحرية والتغيير» و«تحالف قوى التغيير الجذري» و«شركاء السلام»، تقف «الآلية الأممية الثلاثية» المكوّنة من: «بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية في أفريقيا (أيقاد)». وهي تقول، إنها تسهّل عملية توافق بينهم لاستعادة الانتقال الديمقراطي. وفي الواقع، أفلحت «الآلية» في جمع العسكريين والمدنيين في منزل السفير السعودي بالخرطوم علي بن حسن جعفر يوم 9 يونيو (حزيران) الماضي، وبحضور مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية مولي في -التي كانت تزور السودان حينذاك -بحث خلاله الطرفان تسوية الأزمة السودانية.
لكن البرهان، يوم 4 يوليو (تموز) الماضي، كعادته، فاجأ الأطراف السياسية مرة أخرى بإعلان خروج المؤسسة العسكرية من السياسة ورفض المشاركة في المفاوضات الجارية. وقال في خطاب بثه التلفزيون الحكومي في حينه «بعد تشكيل الحكومة التنفيذية سيُحل مجلس السيادة ويُشكل مجلس أعلى للقوات المسلحة يتولى القيادة العليا للقوات النظامية، ويكون مسؤولاً عن مهام الأمن والدفاع وما يتعلق بها من مسؤوليات بالاتفاق مع الحكومة».
وإثر ذلك البيان، توقفت المفاوضات بين العسكريين والمدنيين لفترة. ومع توقف المفاوضات، برزت مبادرات جديدة عدة لحل الأزمة السياسية، فقدمت نقابة المحامين السودانيين مبادرتها الشهيرة التي تضمنت «مسودة دستور انتقالي» لحل الأزمة وافق عليها تحالف «الحرية والتغيير» وعدد من القوى الرافضة للانقلاب، وشجّعها قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو. كذلك، قدّمت مبادرة أخرى بقيادة الزعيم المتصوف الطيب الجد، قالت المعارضة، إنها مبادرة «أنصار نظام البشير»، وإنها لقيت التشجيع من قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
اقرأ ايضاً :