السودان ينزف ويقاوم وأحياء الخرطوم المهمشة منشغلة بما يبقيها على قيد الحياة
الخرطوم | برق السودان
اتفقت صحيفة “لوموند” (Le Monde) وموقع “أوريان 21” (Orient XXI) الفرنسيان على أن السودان يعيش أوضاعا كارثية في جميع المجالات منذ أن استولى الجيش على كل السلطة فيه ووضع حدا لعملية التحول الديمقراطي حولت همّ الناس من التفكير في الثورة وأرغمتهم على الاكتفاء بالعمل من أجل البقاء.
وانطلقت لوموند -في تقرير لمراسلتها بالخرطوم إليوت براشيت- من وصفها حي جبارونا الذي يبدأ من حيث ينتهي الشارع المعبد، ويتكون من أزقة رملية وأكواخ، حيث ينطلق عمال المياومة عند الفجر ويعودون بعد أن أنفقوا كل ما يحصلون عليه تقريبا في رحلتي الذهاب والعودة اللتين تستغرقان ساعتين يوميا.
ومنذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان -كما تقول الصحيفة- غرق السودان في أزمة اقتصادية غير مسبوقة عندما أخرج الانقلاب البلاد عن مسار التحول الديمقراطي قاضيا على آمال البلاد في الانفتاح بعد 30 عاما من العزلة ليجف سيل المساعدات الدولية مع تجميد أكثر من 4.6 مليارات دولار كانت مخصصة لمشاريع الطاقة والزراعة والصحة ودعم الأسر الأشد فقرا، ليزداد الأمر سوءا مع الارتفاع العالمي في أسعار الغذاء والطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.
تضخم ثلاثي الأرقام
أدى هذا العبء المزدوج إلى إحداث فوضى في الاقتصاد، ليتوقف عدد لا يحصى من الشركات الصغيرة والمتوسطة عن العمل وتتراجع القوة الشرائية، ويصبح ما لا يقل عن 15 مليون سوداني -وفقا لبرنامج الغذاء العالمي- يعانون من الجوع في وقت يكاد يكون من المستحيل فيه العثور على وظيفة.
وأشار موقع “أوريان 21” إلى أن القيام بانقلاب كان هدفه إنقاذ البلاد، وأن البرهان أعلن أنه من الضروري إعادة الثورة إلى مسارها الصحيح والتخلص من أولئك الذين تحركهم فقط الرغبة في “إبقاء كل شيء في أيديهم”، لكن الحقيقة -كما يقول ناشط لم يذكر الموقع اسمه- هي أن البرهان برر انقلابه بوعود ونفى رغبته في إنهاء الانتقال الديمقراطي، وها نحن بعد عام ليست لدينا حكومة ولا عدالة، والاقتصاد في حالة يرثى لها”.
وتضيف خلود خير المحللة والمديرة في مركز الأبحاث “كونفلونس أدفيزوري” (Confluence Advisory) ومقره الخرطوم أن “الانقلاب قضى على كل التقدم الذي أحرزته الحكومة الانتقالية اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا”.
ورغم أن رئيس المجلس العسكري يكرر منذ يوليو/تموز 2022 أن الجيش سيسلم حكم البلاد للمدنيين فإن المعارضة المؤيدة للديمقراطية لا تزال تشكك في ذلك، لأن الماضي يشير إلى أن الجيش لا ينوي ترك السلطة ولا امتيازاته، خاصة أن المفاوضات بين الجنرالات والمدنيين تعثرت، وبالتالي بدأت البلاد تغرق في سلسلة من الأزمات حسب الموقع، حتى أن محمد حمدان دقلو “حميدتي” الرجل الثاني في المجلس العسكري وقائد قوات الدعم السريع اعترف بأن “الانقلاب فشل في إحداث التغيير” الذي أعلنه الانقلابيون.
وقد قوبل الانقلاب منذ ساعاته الأولى -كما يقول “أوريان 21”- بمقاومة شرسة وسلمية من عدد كبير جدا من السودانيين من جميع الطبقات الاجتماعية والأصول العرقية والأعمار، ولم تشهد البلاد أسبوعا واحدا دون احتجاج بقيادة لجان المقاومة والمنظمات الشعبية، حتى أن المظاهرات تصل أحيانا إلى أبواب القصر الرئاسي.
ويقول الطالب “محمد. س” “لقد كانت سنة جنونية، ولن نتوقف حتى يترك الجيش السلطة، يمكنهم اعتقالنا أو قتلنا، وسنواصل الإعلان بصوت عالٍ وواضح أننا سئمنا من هذا النظام، وتعبنا من الحكم بالقوة، وتعبنا من العيش في بلد لا يحكمه القانون”.
وظلت قوات الأمن والشرطة وقوات الدعم السريع والاحتياطي المركزي المتخصص بقمع أعمال الشغب من أجهزة المخابرات المتعددة تستخدم جميع وسائل القمع، من إطلاق القنابل بجميع أنواعها والذخيرة الحية، وملاحقة المتظاهرين بالسيارات المدرعة وضربهم على الحواجز، إضافة إلى المداهمات والاعتقالات والتعذيب، وقد قتل 118 شخصا منذ 19 أكتوبر/تشرين الأول 2022 وأصيب أكثر من 7 آلاف وفقا لتقرير صادر عن مبادرة “حاضرين”، وهي منظمة أنشئت في بداية ثورة 2018 لمساعدة الجرحى ماليا.
ونبهت لوموند إلى أن المجلس العسكري أنشأ وحدات “شرطة المجتمع” من أجل “مكافحة الجرائم والظواهر السلبية”، وذلك بتفويض غامض يذكّر بالترسانة القانونية المنتشرة في زمن النظام السابق لتجريم الممارسات التي تعتبر “غير لائقة” كما ذكرت الصحيفة.
وفي سبتمبر/أيلول الماضي اقتحمت حوالي 30 سيارة محملة بالشرطة وعناصر المخابرات والمليشيات حي جبرونا بدعوى تطهير المنطقة من الجناة، وتعرض سوقه الصغير للنهب وإضرام النار في بعض الأماكن وأغرق بالغاز المدمع، وبدا أن ما حدث كان عملية سطو منظمة من قبل العصابات، وتقول سوزانا شيرين “في ذلك الصباح حطم 6 جنود باب منزلنا وصادروا معدات التقطير وعادوا مرتين لنهب المكان”.
وتهتم شرطة ولاية الخرطوم -التي لم ترغب في الحديث للوموند- بشأن هذه الحملات المشتركة التي تستهدف بؤر الجريمة الساخنة في العاصمة، وتصف الأحياء النائية بأنها “أعشاش إجرامية” رغم أن السكان أطلقوا على حيهم “جبرونا” بمعنى أنهم أجبروا على العيش بعد أن فروا من أطراف البلاد بسبب الحروب الأهلية التي هزتها.
تنامي عدم الاستقرار
وفي هذه الأجواء نبه موقع “أوريان 21” إلى تنامي عدم الاستقرار السياسي بعد أن منع انقسام المعسكر المؤيد للديمقراطية أي تقدم ملموس ضد الانقلاب رغم المواجهة التي تنتهجها لجان المقاومة التي قامت بدور تنظيمي مهم خلال ثورة 2018، تاركة الجانب السياسي لتجمع المهنيين السودانيين المكون من مجموعة من النقابات السرية، ولتحالف من الأحزاب السياسية التقليدية ومنظمات المجتمع المدني.
لكن منذ الانقلاب أصبحت لجان المقاومة رأس الحربة للحركة المؤيدة للديمقراطية وأثبتت أهميتها على الساحة السياسية بشعارها “لا تفاوض مع الجنرالات، ولا مساومة، ولا تقاسم للسلطة”، إلا أن هناك اليوم فجوة كبيرة بين الأجيال الشابة وكبار السن الذين اعتادوا نفس اللعبة السياسية، ويقول “محمد. س” “لا نريد ذلك بعد الآن، إنهم يحاولون استعادة زمام المبادرة وقيادة الحركة الثورية، لكننا لن نسمح لهم بذلك”.
وتسمح هذه الانقسامات -حسب الموقع- للمجلس العسكري بإعادة تثبيت قواعد نظام الرئيس الراحل عمر البشير، وتقول خلود خير إن مسؤولي النظام السابق “عادوا إلى وسائل الإعلام والبنوك والوزارات الرئيسية مثل المالية والصحة والعدالة”.
وخلص الموقع إلى أن تأثير الانقلاب -حتى بدون الحرب على أوكرانيا وتعطيل الأسواق- كان هائلا على الاقتصاد، إذ حطم الوعود بتحول ديمقراطي يقوده المدنيون ويقوم على الإصلاح، ليعيد السودان إلى عزلة شبيهة بعزلة ما قبل الثورة” بعد أن تمكنت حكومة عبد الله حمدوك الانتقالية -التي ورثت بلدا على وشك الإفلاس- من البدء في التعافي.
وختم “أوريان 21” بأن الصراعات تزداد بين المجتمعات في ولايات الجنوب وكردفان والنيل الأزرق وشرق البحر الأحمر، مما تسبب في مقتل المئات وتشريد عشرات الآلاف، منبها إلى أن خطر الحرب الأهلية قائم، وأن الجهات المؤيدة للديمقراطية تشير بأصابع الاتهام إلى تلاعب الجنرالات الذين يرغبون في تقديم أنفسهم على أنهم الضامنون الأخيرون لوحدة البلاد.
المصدر : أوريان 21 + لوموند
اقرأ ايضاً :