الأخبارتقارير

الفصل الأول من حكاية (الذين مكنوهم في الإقتصاد) !!

الخرطوم: برق السودان

✍️ ماهر أبو الجوخ

كلما تقدمت لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد وإسترداد الأموال خطوات صوب إنفاذ مهامها في الإسترداد كلما تزايد الصراخ من منسوبي النظام البائد ومن شايعهم أو تضررت مصالحهم، إلا أن ما يدهش المرء حقيقة هو تصوير الأمر وكأنه نزع أموال وممتلكات ممن آلت إليهم بكدهم وإجتهادهم أو ميراث أبائهم وأجدادهم دونما (تمكين) من جهاز الدولة وإعانة (أخوان) التنظيم فهل هذا الأمر هو حقيقة كما يزعمون أم أنه فعلاً نتاج فعل (تمكين) أقصي البعض و(مكن) لآخرين في الإقتصاد فجعلهم أغنياء وأثرياء ؟

وطالما لكل قصة بداية فالنعود للفصل الأول من قصة التمكين الإقتصادي في يناير 1991م حينما قرر تنظيم الحركة الإسلامية وفي إطار مساعيه بسط سطوته على البلاد السيطرة الكاملة على الإقتصاد لدوافع طابعها سياسي وأمني–بغرض إبعاد الرأسمالية التاريخية المرتبطة والمتعاطفة مع الأحزاب السياسية وأخراج العناصر التي كانوا يصنفونها بأن لديها صلات وطيدة بجهات أجنبية أمريكية وأوربية أو من غير المنتمين للحركة الإسلامية لتجنب أي إستخدام للإقتصاد في الحرب والمواجهة السياسية ضد نظام حكمهم خاصة مع بداية تشكل محاور إقليمية جديدة بالمنطقة عقب حرب الخليج الثانية ومؤشرات وإرهاصات قرب الدخول لمرحلة الصدام مع العالم الخارجي- أو لدوافع إقتصادية –لضمان سيطرة منسوبي الحركة الإسلامية على حركة الإقتصاد بالبلاد لتنفيذ المطلوبات الإقتصادية والسياسات الخاصة بالدولة داخلياً وخارجياً وإعانة الدولة في تغطية الإحتياجات الضرورية في حال إقتضت الضرورة ذلك- ولأجل تحقيق هذا التمكين تقرر تنفيذ هذا الأمر عبر قرار إسبتدال العملة.

تم تنفيذ هذه الخطوة عبر مجموعة من التدابير تصدرها إعفاء أخر محافظ لبنك السودان المركزي إبان العهد الديمقراطي مهدي الفكي، في سبتمبر 1990م وإستبداله بأحد منسوبي الحركة الإسلامية وهو الشيخ سيد أحمد الشيخ، وكان الغرض من هذا الأمر ضمان سرية كل الخطوات والإجراءت التي سيتم إتخاذها في ما تقسيم بقية الخطة على ثلاثة مراحل متدرجة.

كانت المرحلة الأولي من هذه الخطوة توجيه منسوبي الحركة الإسلامية العاملين في القطاعات الإقتصادية المختلفة كشركات وأفراد بالتخلص من فئة المائة جنيه والإحتفاظ بالفئات الأدني بالتركيز على (50-20 و10) جنيهات وصدر الأمر كتوجيه دون توضيح الغرض من هذا الإجراء، وبدأت المرحلة الثانية من الخطة قبل لحظات من إعلان إجراءات تبديل العملة بتوجيههم بعدم إيداع اي مبالغ مخزنة طرفهم من غير فئة المائة جنيه وتطمينهم أن هذا الأمر سيعقبه إجراء لاحق.

كما معلوم فإنه بمجرد إصدار النظام الإنقاذي لقراره الخاص بتغيير العملة وتحديده لفترة زمنية قصيرة، ونظراً لمسلكه الدموي الذي إنتهجه في فترات سابقة عند إصداره لقرارات إقتصادية قضت بإعدام الشهداء (مجدي وجرجس وأركانجلو) فإن رجال الأعمال خشوا على أموالهم تلك من مغبة صدور قرار أخر متهور في حده الأدني يتم بموجبه إلغاء كل العملات خارج البنوك أو تنظيم حملات مداهمة وتفتيش تطال الأموال المخزنة لا يستبعد أن تصدر أحكام تطال من تضبط الأموال بحوزته خاصة مع المؤشرات العامة الواضحة للعيان التي تظهر ترصد وإستهداف النظام الحاكم لهم، ولذلك فقد فسارعوا بإيداع أموالهم في البنوك بوصفها أقل الأضرار على أمل إسترجاعها فوراً إستبدالها، إلا أنهم وقعوا في الفخ الذي نصب لهم حينما تم منعهم من إستلام أموالهم وحدد لهم سقف معين للصرف تراوح ما بين الالف والثلاثة ألف جنيه شهرياً لتسيير وتغطية إلتزاماتهم وإحتياجاتهم، مع إمكانية زيادة المبلغ في حدود العشرة ألف جنيه عقب الحصول على إستثناءات بنكية عبر إجراءات معقدة وبطيئة ومرهقة.

بعد ضمان إيداع النسبة الأكبر من الكتلة النقدية إنتقل النظام الإنقاذي للمرحلة الثالثة التي تعد الجزء الأهم من تلك الخطة وصدر قرار مدهش يقضي بإمكانية إستمرار التعامل بالفئنات القديمة في ما عدا فئة الـ100 جنيه بالتوازي مع الفئات الجديدة–طبعاً وقتها كانت الكمية المطبوعة من العملة الجديدة أقل من حجم الكتلة النقذية إذ إستمر العمل بالفئات الجديدة والقديمة لما يقارب العام- وحينها بدأ منسوبي تنظيم الحركة الإسلامية وشركاتها في إستخراج الأموال التي كدسوها من فئات الـ(50-20 و10) جنيهات حيث كانوا يقدمون إجابات مضحكة ومثيرة للسخرية حول أسباب إحتفاظهم بتلك الأموال وإنتهي هذا المشهد بإحتكارهم الكامل للأسواق جراء توفر السيولة لديهم دون سواهم في ما كان على منافسيهم الإنتظار الطويل قبل الحصول على إستئناء زيادة مبالغهم لعشرة ألف جنيه شهرياً في مقابل إلتزامات وبضائع قادمة للبلاد أو وصلت للميناء في إنتظار التخليص ليكون طوق النجاة لهم عرض مالي يغطي أقل من التكلفة وبهامش خسارة تطبيقاً لمقولة (المال ثلثه ولا كتلته)، ورويداً رويداً إمتص (الممكنون) كل الأموال التي منحها النظام المصرفي للناس وبات ما لديهم من أموال يفوق حتى الموجودة داخل البنوك.

قاد هذا الوضع منسوبي التنظيم للسيطرة على كل شيئ بالأسواق بما في ذلك توكيلات الشركات الأجنبة نظير مبالغ زهيدة لأصحابها الأصليين، أما الذين رفضوا عروض منسوبي وشركات التنظيم فقد وجدوا أنفسهم بعد فترة قصيرة للغاية بلا توكيلات أو عمل جراء سحب التوكيلات منهم بعد منحها لجهات وشخصيات سودانية جديدة أثبتت مقدرتها المالية وطبعاً لن نعاني كثيراً لنعرف حقيقة وطبيعة تلك الجهات والشخصيات ومدى علاقتها التنظيمية بالحركة الإسلامية.

نجد أن العملات الجديدة التي اصدرها النظام الإنقاذي لم تكن في حقيقة الأمر سوى ذات العملات السابقة بكل تفاصيلها مع تغيير للألوان وتاريخ الإصدار وإضافة توقيع المحافظ الجديد عليها الشيخ سيد أحمد، وطبقاً لذلك فإن الورقة من فئة الـ50 جنيهاً تم تقليل درجة اللوان الأحمر على واجهتها الأمامية في ما تمت طباعة الجانب الخلفي منها باللون البني عوضاً عن اللون الأحمر وبالتالي بات لهذ العملة لون أمامي مختلف عن لونها الخلفي.

أما فئات الـ20 والـ10 والـ5 جنيهات فقد تم تغيير تاريخ الإصدار وتوقيع المحافظ وتحولت الورقة من فئة الـ20 من اللون الأخضر إلي لون غلب عليه اللون البنفسجي أما فئة الـ10 جنيهات فتم الإبقاء على ذات لون الورقة مع زيادة في درجة اللون البني بأطراف الورقة أما الورقة من فئة الـ5 جنيهات فتم تغيير لونها من الأخضر إلي الأحمر.

بالنسبة للورقة من فئة الـ100 جنيه فقد تأخر إصدار نسختها الجديدة حتى مارس 1992م وحينما تم تدشينها فقد تغيير لونها من اكثر ميلاً اللأخضر إلي أكثر ميلاً إلي الأزرق ، إلا أن الحدث الأبرز حينها كان تجهيز البلاد للإنتقال لحقبة جديدة عًرفت بإسم (الدينار) والذي كان يساوي عشرة جنيهات وشهدت البلاد تدشيناً لفئتي الـ25 و50 دنياراً لتبدأ مرحلة إنحسار الجنيه ليستمر إصدار فئات الدينار حتى وصلت إلي فئة الـ5 ألف دينار عند طي حقبته وعودة البلاد للعمل بالجنيه بعد إصدار العملة الجديدة عقب التوقيع على إتفاق السلام الشامل لكنه لم يكن كجنيه الأمس وإنما مرفوع للقوة (ألف) فالواحد منه يعادل الألف مما كان يعدون عند إنقلاب الإنقاذ في يونيو 1989م.

ولما كان دولار الامس في يونيو 1989م هو ذاته دولار ما بعد إنقلاب الإنقاذ فإن الـ(12) جنيه غير المنفوخة في السعر الموازي (السوق الأسود) عند إذاعة بيان إنقلاب الإنقاذ التي كانت تعادل يومها دولاراً واحداً وبعد ثلاثة عقود من الزمان إقتلاع نظام الإنقاذ في أبريل 2019م وجدته وقد بات لديه ثلاثة اسعار رسمية هي (الرسمي والتأشيري والجمركي) وسعرين للسوق الموازي احدهما (كاش نقداً) بما يعادل 75 ألف جنيه وثاني (حساب بنكي) بما يعادل 95 ألف جنيه !!

من المؤكد أن عملية تبديل العملة بتغيير الألوان تذكر القراء بإجراءت مماثلة تمت عقب إعلان إستقلال دولة جنوب السودان حينما قام النظام المباد بتغيير العملة بإستبدال الألوان وبالتالي فإن التوصيف الصحيح لتلك العملية كان يستحق أن يطلق عليه عملة (تغيير ألوان العملة) عوضاً عن (تبديل العملة)، ففي المرة الأولي قُصد من عملية (تبديل ألوان العملة) تمكين منسوبي تنظيم الحركة الإسلامية من الإمساك بكل مفاصل الإقتصاد بالبلاد وإبعاد الآخرين أما الإجراء الثاني فكان يستهدف (الخنق الإقتصادي للدولة الوليدة ودفعها صوب الإنهيار بعد فشل محاولات إفلاسها بمنعها من أموالها ونجاحها من الإفلات من ذلك المخطط بطباعتها لعملتها المستقلة).

نحلص إلي أن عملية (التمكين) عبر (التبديل) مثلت أولي الخطوات المفصلية لتعزيز سيطرة منسوبي تنظيم الحركة الإسلامية على الإقتصاد السوداني ومن بعدها تتناسلت أجيال لفساد التمكين أكثرها شهرة بسفر الزمان سلالتها التي تلت إستخراج وتصدير النفط بالسودان التي غيرت برمجتها من (الجنيه) إلي (الدولار) وهو أمر عجزت الأجيال اللاحقة من التراجع عنه حتى بعد تدهور الأوضاع الإقتصادية بالبلاد جراء فقدان عائدات النفط فكيف لمن لامست تطلعاتهم سماوات (الدولار) العودة مجدداً إلي (الجنيه) مرة أخرى ؟!! فتفتقت عبقريتهم لعرض كل ما يمكن بيعه (دولاراً) لكل أجنبي زائر فما تركوا مرفقاً أو موقعاً إلا وعرضوه للبيع بأزهد الأسعار ولمزيد من التشجيع ينال المشتري خصومات بالإضافة لجنسية سودانية نظير الإنتفاع والإستمتاع بأملاكه في بلاد بات شعبها مجرد (مستأجر) في وطن تنازع إسمها ما بين (كرتيسان/ هندستان/باسطستان) وهي إسماء تمتد وتتعدد تنتهي سلالة نسبها إلي (تمكينستان) وجدها (أخوانستان) إبن الجد الأكبر لهذه السلالة (حركستنان) وهو إسم الشهرة للحركة الإسلامية السودانية.

منذ حقبة (التمكين) عبر (التبديل) فإن عهد جديد أطل على السودان فمن فضلوهم علي العباد ومكنوهم في موارد البلاد أشاعوا الفساد وزادوا الغلاء فأكتنزوا الأموال وتملكوا الأراضي والشركات دون حق إلا تمكيناً بفضل الدولة ومعاونة وتسهيلات (أخوان التنظيم) ولولا ذلك لما نالوا نصف عُشر ما إستحوذوا عليه في أفضل الأحوال .. لكل ذلك فإن القول الفصل في هذا الشأن (بأن ما بني على باطل فهو باطل) فكل من إستحوذ على مثقال ذرة بالتمكين ستسرد منه إسترداداً كاملاً غير منقوص مهما طال الزمان !!

ملاحظة

خلال إعدادي لهذه المادة دخلت على موقع بنك السودان المركزي بغرض تدعيم هذه المادة ببعض الصور الإيضاحية للعملات خلال تلك الفترة لتمكين القراء لفهم بعض الجوانب المتعلقة ببعض تفاصيله، ونظراً لإرتباط هذا المقال بالعملات خلال الفترة من 1986م وحتى العام 1992م فقد دخلت على الرابط الذي يغطي العملات خلال الفترة من 1986 وحتي يناير 1991م عبر هذا الرابط: https://cbos.gov.sd/ar/node/3696

وجدت أن هذا الرابط يتضمن عملة العشرة جنيهات فقط من التي صدرت في يناير 1987م أما بقية العملات الموجودة بالرابط فهي من فئات (5-20-50 و100) جنيه فقد صدرت جميعها في الفترة التي تلت يناير 1991م. لم أجد تفسيراً يبرر عدم تضمين العملات التي صدرت خلال العهد الديمقراطي إلا أنها محاولة لطمس حقبة (التمكين بالتبديل) الذي قام فيه النظام الإنقاذي المباد بتبديل العملة بتغيير الألوان لتحقيق ما أوردناه في هذا المقال.

ربما ظن النظام البائد أن إخفاء تفاصيل هذه العملات سيعينه على (طمس) بعض الحقائق فيسعدني بكل سرور أن أنشر له مع هذا المقال صور لبعض عملات العهد الديمقراطي خلال الفترة من (1986-1989م) وأخري من التي قام النظام الإنقاذي بإستبدالها عند إصداره قراره بتغيير العملة أو كما ذكرنا (تغيير ألوان العملة).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى