«شلة السقالة».. كيف أُديرت أكبر عملية خلط أوراق سياسية عبر وثيقة «مسربة»؟
“الجهة التي لا تظهر ولكنها تتحكم”
تحقيق استقصائي | إعداد: برق السودان
في ليلة واحدة فقط، شغلت وثيقة “مسربة” المشهد السياسي بأكمله.
انتشرت كالنار في الهشيم، وغطّت على كل ملفات البلاد الحساسة، ودفعت إعلاميين وسياسيين وصناع رأي إلى تفسيرات متضاربة.
بدا الأمر، في الظاهر، وكأنه تسريب مفاجئ..
لكن هذا التحقيق يكشف أنّ ما جرى لم يكن صدفة، بل جزءاً من عملية مركّبة وضعتها جهة محددة داخل الحكومة تُعرف باسم «شلة السقالة».
على مدار أسبوع، تتبع فريق التحقيق مسار الوثيقة، والمجموعات التي دفعتها، وعلاقة الحدث بسياق سياسي أوسع — لنصل في النهاية إلى صورة مختلفة تماماً عما ظهر في السطح.
بداية الخيط
“الوثيقة التي ظهرت في الساعة 9:04 مساء”
تعود القصة إلى مساء يوم الأحد، حيث نشر صحافي معروف على منصة “إكس” نسخة من خطاب استقالة منسوب لرئيس الوزراء الانتقالي كامل إدريس.
بعد 14 دقيقة فقط، كانت عشرات الحسابات تنشر نسخاً مشابهة للوثيقة، بعضها مختلف في سطر أو توقيع أو رقم.
وهنا بدأت أول علامة استفهام: كيف انتشرت الوثيقة بهذه السرعة؟
يقول خبير إعلام رقمي تحدّث لفريق تحقيق برق السودان:
“النشر لم يكن عشوائياً.. كان منسقاً، ومتزامناً، ويعتمد على حسابات معروفة بقربها من جهة حكومية محددة.”
اشبكة التوزيع.. صحافيون في قلب اللعبة
“التمهيد لمشهد مدبّر”
يظهر تحليل البيانات الرقمية الذي أجراه فريق التحقيق أنّ أول ثلاث حسابات نشرت الوثيقة تتبع شبكة واحدة يديرها وزير الثقافة والإعلام خالد الإعيسر.
التحقيق توصّل إلى العناصر التالية:
• الحساب الأول يدار من مكتب إعلام رسمي
• الحساب الثاني لصحافي معروف بإدارة تسريبات سياسية.
• الحساب الثالث يتبع شبكة صفحات إخبارية تنسّق فيما بينها
يقول مصدر إداري سابق:
“هؤلاء يعملون كأسنان ترس واحد أي معلومة تخرج من غرفة الظلال تنتشر عبرهم خلال دقائق.”
«شلة السقالة».. الجهاز السري لصناعة الرأي العام
“الجهة التي لا تظهر ولكنها تتحكم”
تصف مصادر حكومية «شلة السقالة» بأنها:
• وحدة صغيرة تعمل خارج الهيكل الرسمي
• تتلقى معلومات مباشرة من رئيس الوزراء
• يقودها خالد الاعيسر ويساعده أمجد فريد
• وتملك شبكة تمتد إلى صحافيين وناشطين ومنصات
لكن ما هو دورها الحقيقي؟
يقول موظف سابق في أحد المكاتب الوزارية، اشترط عدم ذكر اسمه:
“الشلة تُدار كالعقل الخلفي للحكومة.. مهمتها ليس النشر فقط، بل صناعة الحدث نفسه.”
يضيف آخر:
“كل ما يحدث في الإعلام لا يعكس الصدفة (الشلة) تختبر الفكرة، تخلق وثيقة، تسربها، ثم تراقب رد الفعل.”
الوثيقة.. صناعة بملامح رسمية
“نسخ متعددة.. توقيعات مختلفة.. هدف واحد”
بفحص 17 نسخة من الوثيقة المتداولة، لاحظ فريق التحقيق ما يلي:
• اختلاف في محاذاة النص
• اختلاف في صياغة سطرين في كل نسخة
• اختلاف طفيف في التوقيع والختم
• اختلاف في رقم المرجع والتاريخ
هذا يشير إلى أن الوثيقة صُنعت بطريقة تسمح بتعدد نسخها، بحيث:
• يصعب حسم أي نسخة هي “الصحيحة”
• ويتم خلق حالة شكّ عامة
• وتوجيه النقاش نحو الوثيقة بدلاً من الوقائع الحقيقية
خبير توثيق رسمي أفاد:
“تعدد النسخ بحد ذاته مؤشر على أن التسريب مقصود وليس عفوياً.”
الهدف الحقيقي من العملية
“بين خلق الضبابية… والهروب من الملفات الساخنة”
خلال الفترة نفسها التي انتشرت فيها الوثيقة، كانت الحكومة تستعد لإعلان قرارات اقتصادية مثيرة للجدل.
مصدر من لجنة السياسات يوضح:
“انتشار الوثيقة غيّر جدول الأخبار بالكامل.. فجأة توقف الحديث عن الأسعار، وانشغل الجميع بالاستقالة الوهمية.”
وهنا تتضح الصورة:
• لم يكن الهدف نشر وثيقة فقط
• بل إعادة رسم المشهد السياسي بالكامل لمدة 48 ساعة
• وتوجيه الإعلام نحو حدث واحد صادم
• وتغيير اتجاه السهام بعيداً عن قرارات حساسة
النفي المتأخر.. التعزيز وليس التراجع
صدر النفي الرسمي بعد 72 ساعة — وهي مدة طويلة نسبياً.
لكن توقيت النفي كان جزءاً من العملية، بحسب خبراء تحدثوا لنا.
يقول أحدهم:
“التأخير م intentionally… الغرفة أرادت الوثيقة أن تنتشر أولاً، ثم يأتي النفي لتعزيز الشك، لا لإنهائه.”
بالفعل: بعد النفي، لم يتوقف الجدل — بل ازداد.
ما وراء الوثيقة
يكشف هذا التحقيق أن الوثيقة لم تكن مجرد ورقة — بل كانت أداة ضمن خطة أوسع:
• صناعة حدث
• إشعال جدل
• خلق ضبابية
• إعادة توجيه المشهد
• ثم ترك الساحة تتفاعل
أحد المصادر ختم حديثه بجملة تلخص القصة:
“لم تكن الوثيقة هدفاً.. كانت مجرد شرارة. أما النار فقد كانت جاهزة تنتظر لحظة الاشتعال.”




