الأخبار

صحيفة الأندبندنت: إنهيار مشروع الإسلاميين المؤسَس على الأيديولوجيا في السودان

برق السودان 

✍ محمد جميل أحمد

إنهيار مشروع الإسلاميين المؤسَس على الأيديولوجيا في السودان أدى إلى التطرف وفوضى الإدراك يمكن القول عادةً؛ إن سقوط الديكتاتور لا يعني بالضرورة نهايته، وسيسمح لنا ذلك بالقول، أيضاً، إن مرحلة بناء الإنتقال الديمقراطي عملية معقدة. تبدأ صيرورتها بعد إسقاط الديكتاتور لتسير في طريق طويلة متعرجة ومحفوفة بالمخاطر.

لكن في السودان، ولأن النظام الذي حكم السودانيين ثلاثين عاماً عبر إنقلاب عسكري هو نظام عقائدي، فلم تكن غايته مجرد مغامرة في التجريب السياسي للحكم، أي ليس في تغيير السياسة فحسب؛ بل كذلك في التخطيط الإجتماعي الذي إستهدف إعادة صياغة الإنسان السوداني عبر تغيير المجتمع ونقله من الجاهلية، التي كان عليها ما قبل عام 1989، إلى رحاب الإسلام السياسي.

وضع كهذا سيضيف تعقيداً أكبر، ليس أمام مهمة تصفية الديكتاتورية في الحياة السياسية، التي ستستغرق وقتاً بالضرورة، بل كذلك أمام ما يمكن أن نسميه: تصفيه” ذهنية الإنقاذ”؛ أي عقلية عامة لنظم إدراك ووعي ليس بالضرورة أن يكون أصحابها بالأساس من الإسلاميين، بل مجرد مواطنين عاديين تشربوا على مدى ثلاثين سنة مقولات ومبادئ تفسيرية للحياة لا تعكس اليوم إلا ذهنيات وعقليات أقرب إلى التطرف منها إلى السوية.

كما أنه، بجانب ذلك، عبّرت “ذهنية الإنقاذ” عن إطار لتخريب شمل البنى والهياكل العامة لنظم الإدراك التي طورها السودانيون من حياة إجتماعية وسياسية، ورثت كثيراً من جوانب السوية في الجهاز الإداري للدولة الذي خلفه الإستعمار الإنجليزي، لا سيما في نظم التعليم، والخدمة المدنية، والبنى التحتية؛ بحيث يمكننا القول إنه؛ بعد فشل المشروع الحضاري للترابي – البشير، خلال العشرية الأولى من إنقلاب الإنقاذ، وإنتهى بما سمي بالمفاصلة بين الترابي والبشير عام 1999، في إعادة صياغة المجتمع السوداني؛ كان التخريب، بعد ذلك، يستهدف، في جزءٍ أساس منه: إشاعة الفوضى.

ولأن الحياة العامة لا تقبل الفراغ، فما إن إنهار المشروع الحضاري مع خروج “الترابي” من السلطة، حتى بدأت تتشكل ملامح الفوضى في مجالات لم يكن لتتأثر، بالضرورة، بذلك الفيروس الإنقاذي، لولا أن المشروع الحضاري وجد، حال فشله، مقابلاً موضوعياً وضرورياً في تلك الفوضى.

والحال إن هذه الفوضى إشتغلت على تدمير حياة السودانيين بطريقين؛ فمن جهة؛ لما كان الطرح الذي زعمه الإسلاميون في إعادة صياغة المواطن السوداني عبر المشروع الحضاري، طرحاً أيديولوجياً، وبالتالي لا يمكنه أن يؤسس لبنيات وعي معرفي حقيقي ينقل حياة الناس إلى الأفضل، بدا لكثير من الإسلاميين القابضين على السلطة أن الإعتراف بالفشل بمثابة إنتحار للنظام ذاته؛ لهذا بدأ الطريق الثاني للفوضى والتفاعلات السائبة لدولاب الحياة في كل جوانبها؛ هو ما أسس لما سميناه بــ”ذهنية الإنقاذ”.

هكذا ضرب فيروس الإنقاذ؛ الصحافة، والتعليم والأكاديمية، لا سيما في مجال الدراسات المتصلة بالمجتمع كالتاريخ، ما أدى في النهاية إلى بروز “نخبة” مأزومة في أغلبها تتعاطى الصحافة بطرائق الفوضى من خلال تلك “الذهنية الإنقاذية”، وإن لم يكونوا إنقاذيين، كما بدأنا نشهد مستويات سطحية من حمى التأليف في مجال كتابة تاريخ القبائل، مثلاً، بموازاة تدمير “ذهنية الإنقاذ” لبنية وقواعد اللعبة السياسية للأحزاب وإحلال نظام تسييس القبائل بديلاً لها.

والحق، إن مشروع التشكيك في رموز الحياة السياسية والأدبية والاجتماعية السودانية من شخصيات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، كان قد بدأ مبكراً؛ حين استغل الإخوان المسلمون مناخ المصالحة التي تمت بينهم وبين نظام “نميري” في عام 1977، وتغلغلهم بعد ذلك في بنية الدولة والإستفادة من جهازها العام والتأثير فيه، ما أدى إلى إستصدار نميري للقوانين التي سميت بقوانين الشريعة الإسلامية، في عام 1983، ثم بعد ذلك؛ الإستفادة من مناخ الديمقراطية الثانية، عقب إنتفاضة أبريل عام 1985، حيث نشط الإسلاميون عبر آلة إعلامية جبارة في الصحافة لعبت بسطوتها دوراً كبيراً في تشويه رموز الحياة السودانية، لدى كثيرين، وصولاً إلى إنقلاب “البشير” على الحكومة الشرعية الديمقراطية المنتخبة بقيادة الصادق المهدي، في عام 1989.

هكذا سنجد اليوم، وبتأثير من تلك “الذهنية الإنقاذية”؛ أن خياراً طبيعياً جداً مثل حرية أي مواطن سوداني في الإنضمام لأي حزب من الأحزاب، لا سيما إذا كان الحزب يسارياً، خيارٌ لا يجد قبولاً في أوساط المتدينين من غير الإسلاميين، وربما من غير المتدينين، إلى جانب ما ينبني على هذه الفكرة من إحتقار للأحزاب اليسارية والأحزاب الصغيرة في أوساط أولئك المتدينين الذين لا علاقة لهم بالإسلام السياسي، ولكنهم بسبب ذلك المناخ الذي عممته “ذهنية الإنقاذ” في الفضاء العام، بدا لهم ذلك الموقف كما لو أنه من بديهيات الإسلام ذاته.

من هنا، يمكننا اليوم إدراك الكراهية المتعاظمة لكثيرين من هؤلاء المتدينين، إلى جانب الإسلاميين، لا سيما الناشطين في فيسبوك، للأحزاب اليسارية والأحزاب الصغيرة مستنكرين عليها وجودها، ناهيك أن تكون ضمن الحاضنة السياسية للثورة؛ تحالف قوى الحرية والتغيير.

هكذا، سنجد معارضين مَجّانيين لحكومة الثورة في ركاب المؤتمر الوطني المنحل؛ يمكن استثمارهم في خطابه السياسي المعارض، إلى جانب الأحزاب الإسلامية الأخرى.

وإزاء كراهية كهذه، تستكثر على أي سوداني حر مجرد إنتمائه لحزب سياسي يساري، سنرى بوضوح تجليات قاتلة لـ”ذهنية الإنقاذ” الضارة التي ستلعب دوراً مجانياً في دعم المؤتمر الوطني وأحزاب الإسلام السياسي من حيث لا تدري.

يمكن القول، إن مناخاً كهذا المناخ الذي خلفته “ذهنية الإنقاذ” في عقول الكثيرين على مدى أكثر من (30) سنة، لا يعتبر مناخاً سياسياً سوياً؛ يرى من الحق لكل سوداني أن ينتمي إلى أي حزب كان، وأن انتماءه هذا يستحق كل التقدير مادام سِلمياً.

وهكذا يمكننا القول، أيضاً، إن بعض الكُره المرضي اليوم لحكومة قوى الحرية والتغيير من قِبل قطاعات متدينين شعبيين من خارج حركات الإسلام السياسي نابع من تلك الذهنية المعاقة، وهي بلا شك ذهنية لعب الإستثمار السياسيوي لمفهوم “التكفير” لدى الإسلاميين حيال خصومهم الوطنيين دوراً كبيراً في إعاقتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى