الخرطوم | برق السودان
أحد أعلام موسيقى الجاز في السودان. استخدم الجاز وسيلة لخلق التفاعل وسط الشباب.. ماذا قدم كمال كيلا لموسيقى الجاز ولبلاده؟
يرقد جسده اليوم تحت أرض الخرطوم، إلا أن أغنياته لا تزال تصدح في الأسواق والمحال التجارية والبيوت، كمسمار في نعش الجاز السوداني.
في مدينة كسلا، نهاية أربعينيات القرن الماضي، بزغت شمس مغني الجاز السوداني كمال كيلا (1948 – 2021)، معلنة ميلاد مبدع من طراز فريد أثرى الساحة الفنية بأغنياتٍ على إيقاع موسيقى الجاز بلونية فريدة، ليترك مسيرة حافلة بالإبداع ما تزال خالدة بتفاصيلها في ذاكرة المستمع السوداني.
بعد عام من رحيل كيلا عن عمر ناهز 73 عاماً، بدأت ملامح الفراغ العريض تتمظهر في الساحة الفنية السودانية، وخاصة موسيقى الجاز التي غابت لحد كبير، وفق مهتمين، مما دفع الجمهور للهروب بذوقه السماعي نحو الجاز الغربي في مسعى لملء الفراغ.
بين عامي 1948 تاريخ ميلاده كيلا وعام 2021 موعد رحيله المر في العاصمة الخرطوم، كانت مسيرة حافلة بالإنجاز الموسيقي خلدها كمال كيلا على جدران المشهد الفني السوداني، وأثرى الساحة بالعديد من الأغنيات التي تنشد السلام وتنبذ الحرب، كما تغنى بالحب وأشجى جمهوره النوعي خلال مسيرته.
درس الفنان الراحل في كلية الحقوق جامعة القاهرة فرع الخرطوم والتي كانت مهد إنطلاقته الغنائية فآثر المضي في طريق الفن والموسيقي، تاركاً المجال العدلي والقانوني بتجلياته العلمية والعملية، وفق ما تحكي سيرته الذاتية ومقربين.
وتميز كيلا، وهو من أوائل مغني الجاز في السودان، بالغناء باللغة الإنجليزية على النمط الغربي، كما كان ينشد وقف الحرب وتحقيق السلام مما ألهم الكثيرين بفنه وأفتنهم شخصيته المتفردة.
فنان مثقف
يقول الناقد الفني والمسرحي الزبير سعيد إن: “كيلا كان فناناً مثقفاً ومتعمق في تجربة الغناء السوداني وله إرتباط وجداني بمختلف أشكاله بما في ذلك حقيبة الفن، واستطاع الحفاظ على لونيته رغم تغنيه على إيقاع الجاز”.
ويضيف في مقابلة مع “الميادين الثقافية” أن الراحل “كان حريصاً على فن الجاز حتى لا يندثر ويظل موجوداً ويُقدم من خلال تجارب شبابية، إذ ظل متواصلاً مع مجموعة من الشباب يدعمهم ويقدم لهم كل خبراته ومعارفه وتجاربه الكبيرة للحفاظ على هذا النوع الغنائي الذي يكتسب خصوصيته ويخاطب ثقافة الوسط المنفتح على الغرب”.
وتابع سعيد: “يتميز كيلا بالغناء الإستعراضي. لديه حضور مميز على المسرح وقدرة على التفاعل مع كلمات الأغاني التي يقدمها. كان رجل لطيف ورقيق، يحترم المرأة بشكل غير عادي خاصة النساء المبدعات والمهتمات بحركة الإبداع، فهو من المبدعين الذين تفتقدهم الساحة الفنية بشكل كبير”.
يشارك كيلا في عالم الجاز شرحبيل أحمد وجيلان الواثق وغيرهما.
وهنا، يشير الناقد سعيد إلى أن غناء الجاز في السودان إرتبط بالمجموعات أكثر من الأشخاص، مثل فرقة الدويم الشرقية وعقد الجلاد وغيرهما، لكن كيلا عمل على “سودنة” إيقاع الجاز وطبع عليه لونيته الخاصة، كما شكلت إجادته العالية للغة الإنجليزية جزء من ثقافته الغنائية المتفردة.
وتعرضت موسيقى الجاز لحرب غير معلنة من نظام عمر البشير، لأنه كان يقدم للطبقات المستنيرة والمثقفة، ومرتبط بتحريك حالة تفاعل وسط الشباب، وهو ما حجب ظهور كمال كيلا ورفاقه في الأجهزة الاعلامية مما خلق تراجعاً في هذا النوع الفني خلال السنوات الماضية، وجعل الكثر من الأجيال تجهل معرفة رواد الجاز، وفق سعيد.
مدرسة متفردة
يقول المسؤول في قسم التوثيق والأرشفة بوزارة الثقافة والاعلام السودانية، جمعة كباشي، إن: “كمال كيلا صاحب مدرسة غنائية متفردة جذبت ذوق الطبقات المثقفة، وكان يتميز بأداء وذهنية مختلفة وشكل نقطة توقف للمهتمين بالمشهد الفني عند ظهوره في سبعينيات القرن الماضي، وهو ما كان له مردود وإنعكاسات إيجابية على كل فرق غناء موسيقى الجاز في ذلك الحين”.
ويشدد كباشي في حديث مع “الميادين الثقافية” على أنه: “رغم تراجع غناء الجاز مع صعود التنظيم “الاسلامي” لسدة الحكم في السودان قبل 3 عقود، الا أن رحيل كمال كيلا خلّف فراغاً كبيراً وغاب فن الجاز على الطريقة السودانية التي تميز بها”.
ويرى المسؤول في وزارة الثقافة السودانية أن غياب موسيقى الجاز العصرية عن الساحة السودانية رغم التوجه العالمي كلياً نحو السلم السباعي، أدى لصعود ما وصفه بفن التقليد الذي شوه الأغنيات ودفع الذوق السوداني للهروب بغرض إشباع رغبته من الأغاني الغربية، فلو كان كمال كيلا موجوداً وتم الإهتمام به لما حديث هذا الفراغ.
تواصل أجيال
محمد عبد العظيم (فوكس)، وهو أحد أعضاء الفرقة الموسيقية لكمال كيلا، يشير إلى أن “أكثر ما ميز الراحل حرصه الشديد على تواصل الأجيال الغنائية وتوريث فن الجاز لآخرين غيره، فكان يقدم تجربته لمجموعات شبابية بسخاء لا متناهي قل ما يتوفر لدى فنانين غيره في ظل الروح التنافسية بالقطاع الفني”.
وأضاف “كيلا كان فناناً يتسم بالتواضع ويتعامل مع فرقته الموسيقية وكل من يعمل معه كعائلة الواحدة. سكنت معه في منزله بضاحية الأزهري جنوبي الخرطوم لأكثر من 6 أشهر كان يعاملني فيها مثل أبنه، وهو كان ملهمي في الدخول إلى عالم موسيقى الجاز”.
يتذكر (فوكس) أن كيلا كان مهتماً بتربية الحيوانات المختلفة خاصة الكلاب النادرة “ما يعكس حسه الإنساني الكبير”، مردفاً “لقد كان مبدعاً يطرب لأغنياته الجميع، وفراغه لا يعوض مطلقاً”.
اقرأ ايضاً :