الخرطوم | برق السودان
صباح السبت الخامس عشر من شهر أبريل 2023، علامة مفصلية في تاريخ السودان السياسي المعاصر، إذ أن وقوع المواجهة المسلحة بين الجيش السوداني بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليس مجرد تنافس تقليدي على السلطة بين جنرالين، بل هو المرحلة الأخيرة في مشروع “الثورة المضادة” الذي عكف عليه الإسلامويون منذ سقوط نظامهم بقيادة عمر البشير بالثورة الشعبية في 11 أبريل 2019.
بالطبع هذا لا ينفي ان لكل من البرهان، وحميدتي، رغبة حقيقية في الانفراد بالحكم، ولكن حسب فرضية هذه المقالة فإن الحرب الدائرة حاليا صنعها ما يسمى “التيار الإسلامي العريض” الذي يضم القيادات الرئيسة في نظام البشير مضافاً إليهم جماعات متطرفة حليفة.
معطيات الواقع السوداني حتى الآن تؤكد ان التيار الغالب وسط الاسلامويين هو التيار الانقلابي العنيف الذي لعب دوراً مفتاحياً في إشعال الحرب الدائرة حالياً
الإسلامويون والرهان العسكري
منذ أن صوت مجلس شورى “الجبهة الاسلامية القومية” لصالح الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري ضد حكومة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي، وتنفيذه بقيادة عمر البشير، في 30 يونيو 1989، أصبحت الأجهزة العسكرية والأمنية الخاصة هي النواة الصلبة للتنظيم الاسلاموي، والعقل المتحكم في مصيره، والمركز الذي يدير صراعاته وانقساماته، ومع بلوغ النفوذ الاسلاموي ذروته في الجيش والشرطة عبر سياسة التمكين، وتنامي التشكيلات العسكرية الموازية كالدفاع الشعبي والشرطة الشعبية والامن الشعبي وكتائب الظل، وتطور جهاز الأمن الى دولة داخل الدولة، تحولت هذه الترسانة الامنية والعسكرية بعد ان أكملت قمع وإقصاء خصوم النظام إلى آلية ترجيح وحسم في صراع السلطة حتى داخل التنظيم الاسلاموي نفسه!.
وتأسيساً على ذلك انتصر تيار البشير، على تيار الدكتور حسن عبدالله الترابي، ثم انتصر البشير، مجدداً على المجموعة التي اصطفت معه ضد الترابي، ممثلة في قيادات المؤتمر الوطني البارزة وعلى رأسها علي عثمان محمد طه، ونافع علي نافع، وفي سياق تثبيت البشير، لحكمه وردع اي تحرك ضده من الضباط الاسلامويين في الجيش أسس قوات الدعم السريع في اغسطس عام 2013، وأصبحت تابعة لجهاز الأمن والمخابرات.
وفي يناير 2017، صدر قرار بتتبيعها للجيش السوداني مما يقتضي خضوعها لقانون القوات المسلحة إلا أنها تمتعت باستقلال مالي وإداري وعسكري بسبب تبعيتها بشكل مباشر للقائد الأعلى للجيش (عمر البشير) حينها، الذي كان يردد في خطاباته العامة عبارة “حميدتي حمايتي” كتهديد لاي تحرك ضده من اسلاميي الجيش.
تيارات الإسلامويين بعد الثورة السلمية التي بدأت في ديسمبر 2018، وأطاحت بالبشير، في 11 ابريل 2019، هل ظلت فكرة السيطرة على الحكم باستخدام القوة العسكرية مسيطرة على الاسلامويين؟
لا توجد الآن حركة اسلامية في السودان يوحدها فكر أو برنامج سياسي بل توجد تيارات متصارعة على السلطة تشترك في كونها مرتبطة بالجهاز الخاص (الأمني العسكري) الذي نجح في عسكرة الحركة تماماً ويسعى للسلطة بالاعتماد على الوسائل العسكرية التي خبرها على مدى ثلاثين عاماً.
الشعب السوداني يرزخ الآن تحت وطأة المواجهة العسكرية بين “التنظيم الأمني العسكري الخاص للحركة الإسلاموية” وقوامه لوبيات الفساد والمصالح المتراكمة على مدى ثلاثين عاماً
وفي هذا السياق يراهن الاسلاميون على الجيش الآن في إعادتهم إلى السلطة ولهذا السبب يدعمونه الآن في حربه على قوات الدعم السريع لن يحقق لهم هذا الهدف لأن لديه – اي الجيش – طموحه الخاص في الانفراد بالحكم، وبالتالي لا بد ان يتوحد جميع المدنيين بما فيهم الاسلاميون لانتزاع الحكم المدني.
مجموعتان خلف الجيش وتيار على الرصيف!
بعد تشكيل المجلس العسكري الانتقالي في 13 ابريل 2019، برئاسة الفريق عبدالفتاح البرهان، انقسم الاسلامويون إلى مجموعتين إزاء الوضع السياسي الجديد ممثلا في الفترة الانتقالية التي تم الاتفاق على استبعاد حزب المؤتمر الوطني والأحزاب التي ظلت مشاركة في حكومة البشير، حتى تاريخ سقوطه من تشكيل مؤسسات الحكم الانتقالي، الأولى مجموعة كوبر (نسبة إلى سجن كوبر الشهير الذي يقبع فيه رموز النظام البائد)، تتبنى موقفا رادكالياً يهدف إلى الإطاحة عسكرياً بالنظام الذي تشكل بعد الثورة، تضم أهم قيادات حزب المؤتمر الوطني وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير، ونائبه الاول علي عثمان محمد طه، ومساعده نافع علي نافع، واحمد هارون وعبدالرحيم محمد حسين، وعوض أحمد الجاز، ومدير جهاز الأمن السابق محمد عطا، تمكنت هذه المجموعة رغم وجودها في سجن كوبر من اجراء الاتصالات وتدبير أول انقلاب عسكري بعد الثورة في يوليو 2019، بقيادة الفريق أول هاشم عبد المطلب رئيس هيئة أركان الجيش وقد أفشلت المحاولة وحوكم منفذوها بالسجن بعد محاكمة عسكرية.
كما أعلنت القوات المسلحة عن احباط محاولة انقلابية في سبتمبر 2021، بقيادة اللواء عبدالباقي حسن بكراوي، الذي شغل العديد من المناصب في صفوف الجيش السوداني خلال فترة حكم البشير.
مجموعة كوبر ذات أفق سياسي مسدود، إذ أنها تراهن على الانقلاب وعلى تحالف دولي مع روسيا والصين، وتحالف إقليمي مع إيران، وتتجاهل عدم صلاحية البشير، المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية والذي كان يشكل عبئاً سياسياً حتى على الاسلامويين قبل الثورة، إذ تعالت أصوات بعضهم بضرورة عدم ترشحه لرئاسة الجمهورية في انتخابات 2015، وتكرر الأمر في انتخابات 2020.
المجموعة الثانية يقودها علي كرتي (الأمين العام المكلف للحركة الاسلامية، والقائد المؤسس لقوات الدفاع الشعبي) وابرز عناصرها مدير جهاز الأمن والمخابرات السابق صلاح قوش، ووزير الدفاع في عهد البشير، عوض ابن عوف، والضابط عماد عدوي، وتتبنى فكرة التحالف مع قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، وإضعاف الفترة الانتقالية بعمل منهجي في تقسيم قوى الثورة وعلى رأسها “تحالف الحرية والتغيير” و”لجان المقاومة”، ومحاربة “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” وعرقلة اي اصلاحات للجهاز العدلي واستعادة النفوذ الاسلاموي في مفاصل الدولة والدفع باتجاه خيار الانتخابات المبكرة دون إصلاحات تضمن نزاهتها.
وقد ارتفعت أسهم هذه المجموعة واتسعت قاعدتها وسط الاسلامويين بعد الانقلاب العسكري على حكومة “الحرية والتغيير” برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك في 25 اكتوبر 2021، إذ ألغى هذا الانقلاب قرارات “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو” وأعاد عناصر نظام البشير الى مواقع مهمة في القضاء والخدمة المدنية وأعاد اليهم الأموال المصادرة منهم في إطار عملية إزالة التمكين. ومن ناحية العلاقات الخارجية ترتبط هذه المجموعة اقليميا بمصر.
خارج هاتين المجموعتين يوجد تيار من المثقفين والاكاديميين والقوى الشبابية والحزبية ذات التوجه الاسلامي، بعضهم يطلق عليه “تيار الرصيف” والبعض الاخر منخرط فيما يسمى “التيار الاسلامي العريض” الذي يضم إلى جانب مجموعة كوبر ومجموعة كرتي حركة “الاصلاح الآن” وجماعات سلفية بعضها متطرف مثل حركة محمد علي الجزولي.
الاتفاق الإطاري يوحد المجموعتين
كلا المجموعتين تتبنى موقفاً معادياً لقوى الثورة، وتعمل على تدمير الفترة الانتقالية، كما ترغب كل منهما في التخلص من قوات الدعم السريع نهائياً، وكان الاختلاف الرئيس بينهما حول وسيلة تحقيق ذلك هل عبر انقلاب عسكري إسلاموي خالص أم عبر دعم انقلاب البرهان، وتجييره لصالح الاجندة الإسلاموية.
بعد نجاح الاحتجاجات الشعبية والضعوط الدولية في إفشال انقلاب 25 اكتوبر، وتدشين عملية سياسية جديدة أسفرت عن توقيع القوى السياسية الرئيسية وقيادتي الجيش والدعم السريع على الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر 2022، الذي ينص على خروج المؤسسة العسكرية من العمل السياسي، وكان من المفترض ان يتطور إلى اتفاق نهائي يتضمن تفاصيل حول العدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري وازالة التمكين وقضايا السلام وشرق السودان، توحدت المجموعتان في رفض الإطاري، والتعبئة ضده واستنفار العناصر الإسلاموية في الجيش ضد العملية السياسية ورجحت كفة خيار مجموعة كوبر في الانقلاب العسكري، وفي هذا الإطار ضغطت العناصر الاسلاموية في الجيش على البرهان، في اتجاه اشتراط دمج الدعم السريع في الجيش في مدى زمني قصير للتوقيع على الاتفاق، وبرزت بقوة خلافات البرهان، وحميدتي، الذي انحاز للاطاري بقوة.
توحدت المجموعتان (مجموعة الانقلاب العسكري الخالص لصالح الاسلامويين ممثلة في جماعة كوبر بقيادة البشير، وعلي عثمان وأحمد هارون، ومجموعة الحكم الاسلاموي من خلف انقلاب البرهان، بقيادة علي كرتي) اتفقتا حول ضرورة العمل العسكري لقطع الطريق على استئناف المسار الانتقالي، لان انقلاب البرهان فشل وما عاد خيارا مناسبا.
تصاعدت التعبئة الإسلاموية للحرب منذ التوقيع على الاتفاق الإطاري على لسان قادة بارزين مثل محمد طاهر ايلا، وانس عمر، الذي بشر رموز النظام البائد في سجن كوبر بقري موعد تحريرهم خلال وقفة احتجاجية لما يسمى بالتيار الاسلامي العريض، وتواترت خطابات الدعوة الى حمل السلاح في عدد من الافطارات الرمضانية التي نظمها ذات التيار قبيل اندلاع الحرب.
معطيات الواقع السوداني حتى الآن تؤكد ان التيار الغالب وسط الاسلامويين هو التيار الانقلابي العنيف الذي لعب دورا مفتاحيا في إشعال الحرب الدائرة حاليا، والآن يرزح الشعب السوداني تحت وطأة المواجهة العسكرية بين “التنظيم الأمني العسكري الخاص للحركة الإسلاموية” وقوامه لوبيات الفساد والمصالح المتراكمة على مدى ثلاثين عاما، وقوات “الدعم السريع” التي خرجت عن طوع الإسلامويين وأصبح لها مشروعها الخاص لاغتصاب السلطة السياسية.