الخرطوم | برق السودان | خاص
في السنوات الأخيرة برز اسم السودان في الكثير من قوائم الجوائز والمنح والمسابقات الأدبية العربية، آخرهم كان قبل عدة أيام فقط الروائي أسامة الشيخ فائزاً بجائزة سمو الشيخ راشد، وقبله بأيام عبد القادر مضوي في جائزة كتارا، والعديد من الأسامي التي احتلت قوائم الفوز في منح النشر خلال هذه السنة، مثل منحتي آفاق والمورد الثقافي، تأتِ هذه النجاحات خلال تراجع سياسي واقتصادي للسودان ألقى بظلاله على الفضاء الأدبي وحركته ومبادراته، ونخر حتى بنياته التحتية على قلتها.
بين يدينا الآن الطيب قرشي ووقاص الصادق، فاز الطيب بمنحة المورد الثقافي هذا العام لإنتاج ونشر رواية بعنوان “كاودا .. سيرة الأرض المنسية”، ليكون هذا عمله الأدبي الثاني بعد المجموعة القصصية التي أصدرها قبل نحو عام بعنوان “عذابات الملاك الأسمر” عن دار نرتقي، أما وقاص فقد أصدر عام 2015 مجموعة قصصية بعنوان “حضور بلون الماء” عن دار أوراق المصرية، ثم سيعود مطلع العام المقبل للنشر عبر المجموعة الفائزة بمنحة آفاق “كِتَاب الإنتظارات”.
ونبدأ الحوار مع الطيب قرشي:
_ في عام فاز الطيب بمنحة إقامة فنية لكتابة مجموعة قصصية، وقد قضاها في شواطئ بورتسودان، هذا العام فاز الطيب بمنحة كتابة رواية من المورد، فسافر لمصر لكتابة الرواية، لماذا يحتاج الطيب كل هذه العزلة لكتابة عمل أدبي؟
– حتى يكتمل عمل أدبي بين دفتي كتاب فالأمر ليس بتلك السهولة، وعلى الرغم من الأجواء التي أصبحت خانقة مؤخراً في السودان، فإن الكُتّاب مازالوا يكتبون، والمبدعين ما زالوا يبدعون، إنه لأمر رائع ومثير للدهشة أن يتخطّى المبدعون في شتى مجالاتهم تلك الظروف الطاحنة، من أجل إنجاز أعمالهم، لكنني متأكد تماماً من وجود مبدعين آخرين كثر زجّت بهم أوضاعهم المعيشية والانسانية الصعبة إلى أنفاق السعي وكسب العيش والركض الذي لا بد منه لسدّ الحاجة، هؤلاء ستصبح ممارسة معظمهم للفن مجرّد رفاهية، وأنا أنحاز إلى هذه الفئة، لأنني عشت هذه المعاناة، وحقيقة ً لم أستطع أن أوفّق بين تلك الأوضاع الصعبة التي كنت أعيشها بنحوٍ يوميّ ومواصلة مشروعي الأدبي. طبعاً مسألة التوفيق هذه ليست مستحيلة، لكنها لا بد أن تمر بالكثير من العقبات، وهذا في حدّ ذاته جانب تتغذّى عليه الكتابة نفسها؛ موضوعاتها هواجسها وحتى جنونها. إذن فالأمر يتطلب تقديم الكثير من القرابين و التضحيات، لذلك كانت منحة الإقامة الفنية التي فزت بها قبل نحو عامين فرصةً رائعة لإنجاز كتابي الأول ” عذابات الملاك الأسمر” وهو عبارة عن مجموعة قصصية أنجزت بعض قصصها قبل الفوز بالمنحة، ثم بعد الفوز أكملتُ كتابة بقية القصص.
وكان فوزي بمنحة المورد الثقافي فرصة أخرى ثمينة لمواصلة هذا المشوار الذي بدأت تتضح معالمه، وأطمح من خلاله إلى بلوغ غاياتي في الكتابة. ولم يأت قرار سفري إلى القاهرة من أجل كتابة روايتي الفائزة بالمنحة “كاودا.. سيرة الأرض المنسية” فقد حدثت الأمور بالتزامن. حيث كنت قد قررت منذ مدة السفر لأسباب كثيرة من ضمنها أن أواصل ما بدأته من مشروعي الأدبي الذي تعثّركثيراً في السودان. لكن يظل السودان هو تلك الشعلة الموقدة في داخلي، والتي أبداً تنير لي الدرب، وتكشف لي دائماً مواطنَ القصص والحكايا التي دارت هناك، حيث أنني استمد معظم أفكاري في الكتابة من الأوضاع التي عشتها والبيئة التي نشأتُ فيها.
_ يبدو الطيب جادَّا في التعامل مع موهبته الكتابية عبر خطواته الواثقة، هل ينم ذلك عن مشروع أدبي متضح المعالم في رأسك؟ فكرة معينة تريد أن تنقلها للعالم؟ أو لماذا يكتب الطيب قرشي؟
_ مشروعي الأدبي هو الانسان، أجدني دائماً أنحاز إلى تلك الموجة التي تظل أبداً تنازع الانسان في حياته، وتجعله يبحث عن انسانيته الضائعة، ولو قلت إن هنالك كلمة واحدة يمكنها أن تعبّر عن شخصية الطيب الكاتب فسأقول “الفقد” هذه الكلمة بمثابة الإبرة الحادة التي تطعن ذلك الانتفاخ الذي يعتمل في رأسي بكل الافكار وتجعله ينفجر، محدثاً فرقعة ً لغوية هائلة، لم أصل إلى تلك المرحلة بعد، لكنني متأكد وواثق تماماً من أنني أمتلك ما لديّ لأقوله بالطريقة التي أراها وأريدها. وأكتب ليس من أجل الوصول إلى ما أفتقده ويفتقده جميعنا، وإنما من أجل التعبيرعن ذلك الفقد، أن انتصر علي أشيائي المفقودة بفضحها أكثر من لذة الوصول إليها .
_ هل أنت كاتب ليلي أم نهاري؟ وكيف تصف يومك الأمثل بالنسبة لروتين الكتابة؟
– كل وقت بالنسبة لي هو وقت مناسب للكتابة، متى ما توفرت الرغبة، لأنني كاتب مزاجي إلى حد كبير، فكثيراً ما أجد الوقت المناسب للكتابة لكنني أفقد الرغبة، بجانب ذلك هنالك أيضاً المكان المناسب، ومتى ما توفرت هذه العناصر الثلاثة مجتمعة سيتقدم الكاتب خطوات كبيرة نحو مشروعه الأدبي.
_ تحدث لنا عن مشروعك الفائز بالمنحة.
– أقترب كثيراً من إنجاز المسودة الأولى من روايتي “كاودا.. سيرة الأرض المنسية” الرواية التي ستتم طباعتها بمنحة من مؤسسة المورد الثقافي ببيروت، وأدين بالفضل لهذا الصرح العظيم الذي ظل لسنين يدعم الكثير من الأقلام العربية، والفنانين في مختلف مجالاتهم الإبداعية، ويعينهم على إنجاز مشاريعهم وبلوغ غاياتهم التي يحلمون بالوصول إليها. الرواية هي بمنزلة سيرة للمكان، أردت من خلالها أن أنقّب أكثر عن انسان تلك الأرض، المتمثلة في ولاية جنوب كردفان وما طاله من ظلم وتهميش وإبادات.
_ هل نتوقع أن يحاول الطيب السفر لكاودا مثلا من أجل الكتابة عن كاودا، عبر نظرة أكثر قرباً؟! وهل من الضروري للكاتب أن يقترب مكانياً لما يريد الكتابة عنه؟
– تمنيت لو أنني زرت كاودا ليس بدافع الكتابة عنها فقط، وإنما أيضاً لأتعرف وأقترب أكثر من تلك المدينة الرائعة التي سمعت وقرأت عنها كثيراً، ولأتعرف أكثر على ثراء طبيعتها وروعة وبساطة انسانها. إن أرضنا زاخرة بالعديد من المناطق التي تستحق أن نشدّ إليها الرحال، لا أن نهرب منها بسبب ويلات الحرب والاقتتال وانعدام الأمن، وهذه من إحدى التناقضات في بلادنا، أن تجد لعنة الحرب لا تصيب سوى الأماكن التي ينبغي أن تكون رمزاً للسلام والمحبة. وأقاليم السودان الغربية المتمثلة في دارفور أو كردفان بجميع ولاياتها ومدنها العريقة هي مناطق لحضارات عريقة، ممتدة وعابرة للأزمنة، وتستحق منا الاهتمام والتوثيق.
طبعاً في الكتابة الأدبية ليس بالضرورة أن أتعرف على الجغرافيا بنحوٍ واقعي يحتم عليّ زيارتها، لأن الأدب يعتمد في أساسه على الأخيلة، ولذا انطلاقاً مما أعرفه وعرفته بالقراءة والإطلاع على بعض الكتب القديمة والحديثة والمراجع والأوراق العلمية حول تلك المنطقة؛ أسرجتُ خيولي وركضتُ بشيء من الثقة والخوف واحتمال التعثر نحو روايتي “كاودا.. سيرة الأرض المنسية”.
-
إرث ثقافي وجمالي يزينه الذهب والفضة..الشبرية… منزل سوداني على ظهور الإبل
-
وفاة الشاعر السوداني عبدالله شابو
وقاص الصادق
_ يحب وقاص أن يكتب عن اللحظة العادية، عن شارع عبر وصف أفقي، عن كيس طائر وغنماية ضائعة، وشخص يجلس في كرسي بص، عن مواقف تمر بنا جميعاً رغم ذلك يتفرَّد وقاص في وصفها وبيان تقاطعاتها، مالذي يبحث عنه وقاص في اليوميّ والعادي؟
– أعتقد أن الإجابة الأصح هي أن أقول “لا أعرف” .. ثم ستبدأ الإجابة الفعلية بعد ذلك كاستطراد وشرح، فمنذ بداية ممارستي للكتابة لم تكن رغبتي هي أن أحكي قصة أو أن أنسج تتالي لأحداث ما ذات بداية ونهاية وموضوع وقمة وغيره، بل كانت الرغبة هي أن أعبَّر عن الغرابة التي أراها فيما حولي، أن أتأمل عبر الكتابة وأعيد تفكيك وتركيب مناظر ومشاهد وأشخاص وأشياء، لم تكن القصة أو الحبكة هي الرغبة الأولى، بل أتت كشيء طبيعي يحدث حين يحاول الإنسان أن يفكر في طبيعة الأشياء، فبينما كنت أحاول أن أفهم الأشياء فجأة وجدتُّ نفسي أروي قصصاً عنها، لذلك أكتب عن كيس وغنماية ضائعة وناس تمشي في الشارع ومواقف عادية تمر بنا؛ لأني أعتقد أن كلمة “عادي” هي وصف غير دقيق لما يجب أن تكون عليه، ما هو تعريف الشيء العادي؟ .. الغريب أننا بمجرد تعمقنا في تعريف الشيء العادي فسنكتشف “لا عاديته”، وهذه هي دائماً المفارقة التي أبحث عنها.
_ عندما نقرأ لوقاص يكون من السهل تصديق ما يقوله، حتى لو كان فانتازياً عجائيباً، بحيث تجلس العجائب داخل الوقائع بطريقة سلسلة في سرده، فهل هذه إحدى خدعك السردية، أم أن الواقع هكذا فعلاً؟!
– سُئِل ماركيز فيما قبل هذا السؤال، وكانت إجابته بأنها خدعة سردية تعلمها من عمله في الصحافة و كيفية صياغة الأخبار ليصدقها الناس؛ وذلك عبر الاستغراق في التفاصيل. وذكر مثاله المشهور بأنك لو قلت أن هناك فيلا سقط من السماء فلن يصدقك أحد، أما لو قلت بأن هناك 67 فيلا سقطو من السماء، فسيستغرب الناس من دقة الرقم، أعتقد بأني أفعل ها الشيء أيضاً، وذلك عبر التوحُّد مع السرد والإندماج معه حتى تجعله يصنع حقائقه وواقعه الخاص المقنع، التفاصيل والتفاصيل الدقيقة والتحدث عبر شخصيات تحكي عن نفسها ورؤيتها للحياة من مكانها بالضبط، فبديهيات ومعتقدات أهل المدن ليست كأهل القرى، والبحَّار العجوز ليس كالذاهب في رحلته الأولى، والشيخ المؤمن ليس كما العالم المتشكك، هذه الفروقات بين الناس واختلاف رؤيتهم للحياة هي ما يجعله عالما سحرياً، بمعنى أنها ليست خدعة سردية فقط وإنما الحياة نفسها تختلف باختلاف الأشخاص، والخرافات في أماكن هي بديهيات في أماكن أخرى وهكذا.
_ عن استقبالك لخبر المنحة قلتَ بأنك لا تعرف كيف تستقبل خبراً سعيداً، ما هو شكل هذه السعادة، حتى وإن لم تعبر عنها في وقتها، حتى و إن لم تعبر عنها أصلا؟
– هي في جزئها الأول سعادة استغرابية، بمعنى الإستغراب من نجاحك أصلاً في اجراءات التقديم؛ أنك فعلت كل شيء بالطريقة الصحيحة، أرسلت الأوراق المناسبة، و ضغطت على الخيارات المناسبة، وأرسلت الوثائق المطلوبة بالضبط، وجاوبت أسئلتهم بنجاح رغم كل تلك الحيرة التي جاوبت بها، وهذا شعور غريب بالنسبة لتجربتنا الإجرائية في السودان مثلاً، فقد تضيع أيام وأشهر وفرص بسبب أخطاء ورقية بسيطة، ثم سعادة الإستغراب من أنك أنت بالذات فزت من بين عشرات المشاريع الأخرى “في لحظة تتخلى فيها عن نرجسية الكاتب و تنظر للأمر من وجهات النظر الأخرى كلها”! .. بعد ذلك تتذكر العامل الأساسي، وهو المشروع أو النص الذي كتبته لهم، حينها ربما تشعر بالسعادة إن كنت كاتبا واثقاً، لكن ككاتب قلِق مثلي فقد شعرت بالورطة، بل وشعرت أني نسيت المشروع الذي أرسلته لهم، لذلك فتحت الصفحة الأولى لأقرأه مجدداً.
_ هل أنت كاتب ليلي أم نهاري؟ وكيف تصف يومك الأمثل بالنسبة لروتين الكتابة؟
– نهاري، بل نهاري جداً، ولا أعرف كيف يكتب البعض في الليل، باستثناء الشعراء طبعاً، فبالنسبة لي القصة و الرواية مخلوقات نهارية، أحتاج فيهما لضوء النهار، للمساحة التي يخلقها لك ولو كانت وهماً، أحتاج لساعات طويلة تعقب الساعة التي أكتب فيها لأحس بأنه يمكنني مواصلة الكتابة بلا قلق من اختراق لوقت النوم أو اقتراب الصباح، هذا البراح في ساعات النهار هو ما يجعلني مطمئناً لإكمال القطعة التي أكتب فيها حتى ولو لم أكملها، لا أحتاج لهدوء الليل، ولا لجماله، ولا لمزاجياته، لا أحتاج للمزاج أصلاً، ولا الإلهام، ولا موسيقى جيدة ولا منظر نافذة جميل، كل ما احتاجه هو السطر الأخير فيما كتبته بالأمس، فأواصل منه، أحتاج كذلك لمصدر ماء على بعد عشرة أمتار على الأقل لأمشي له كل بضع دقائق، فالمشي تفكير، قد أحتاج لقهوة، لضجَّة خفيفة يصنعها صوت منتظم، ثرثرة بعيدة أو شارع مزدحم، لكن ليس شخص واحد يتكلم، من الغريب أن صوت الجماعة ليس مزعجا كصوت شخص واحد، بالتالي يومي الأمثل للكتابة هو يوم ممل، فارغ من كل خبر جميل أو غير جميل، ظهيرة عادية، أسرق منها ساعة للكتابة، صفحة أو أسطر حتى.
_ تحدث لنا عن عن مشروعك الفائز بمنحة آفاق.
– مجموعة قصصية اسمها “كتاب الإنتظارات”، دون أن تكون هناك قصة بهذا الإسم، بل هي روح أحسستُ للحظة واحدة -ما قبل التقديم للمنحة بخمس دقائق- أنها تسري في القصص جميعها، اذن هو اسم مستعجل قررته في لحظة، ولكن ما الأكثر تعبيراً من اسم مستعجل؟! .. تحوي المجموعة قصص بتنويعات مختلفة، بعضها ليس قصصاً أصلا بل تأملات، بعضها طويلة وأخرى قصيرة جداً، لم تُكتب كمجموعة واحدة، ولا خلال وقت متقارب ولا بنِية أن تُجمع في كتاب واحد، تعبِّر بشكل عام عن القلق الذي هو السمة الأبرز لحياتنا في هذا العصر، وعن الفانتازيا التي تحدث داخل اللحظات العادية، وعن شارع بتنويعات مختلفة يفسر أو يعقد بعضها بعضاً.
اقرأ ايضاً :