الأخبار

لماذا يستغل أردوغان المشاعر الدينية للمسلمين؟

ما إن تقع حادثة، تتضمن تهجمًا على الإسلام أو نبيه الكريم، أو استهداف المسلمين بعمل عدائي في أي دولة في العالم، حتى يتلقفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويتعاطى معها بنهج حاد، يزيدها اشتعالاً، ويحوّله إلى طرف فيها؛ بما يؤدي إلى تعقيد الحادثة، وتحوّلها إلى أزمة. فرغم تطابق وجهات النظر على الصعيد الدولي في التعامل مع مذبحة مسجدَي نيوزيلندا في 15 مارس 2019 على أنها عمل إرهابي وحشي، عمد “أردوغان” إلى تصوير الحادثة على أنها انعكاس لحرب غير معلنة، يشنها الغرب على الإسلام في إطار كراهية الأوروبيين للدولة العثمانية، التي احتلت أجزاء من قارتهم. وقد قاده نهجه المتشنج إلى التعدي على سيادة نيوزيلندا متوعدًا إياها بمحاسبة منفّذ المذبحة الأسترالي برينتون تارانت إن لم تحاسبه سلطاتها، رغم أنها قبضت عليه قبل أن يكمل بقية فصول جريمته، وأخضعته للإجراءات القضائية.

ولا يقتصر اهتمام “أردوغان” بالحوادث المرتبطة بالدين على النوع السابق؛ فقد دأب من وقت إلى آخر على افتعال مشاكل تتلامس مع البعد الديني للأتراك والمسلمين في العالم، إذا لم تسعفه مجريات الحوادث بواقعة يتداخل مع أطرافها، مثل اشتباكه المتكرر مع السياسي الهولندي خيرت فيلدرز، الذي يرأس حزبًا يمينيًّا متطرفًا، واكتسب شهرته من عدائه للإسلام والمسلمين، أو أن يلجأ إلى إعادة إثارة نزاعات تاريخية، كإعادة تحويل متحف أيا صوفيا إلى مسجد، مبطلاً القرار الذي صدر في هذا الشأن عام 1934، الذي اتخذه مصطفى كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، والملقب بـ”أبو الأتراك”. فما التوصيف الدقيق لهذا النهج الذي يسلكه “أردوغان”؟ وما الأهداف التي يجنيها من ورائه؟ وهل من بين هذه الأهداف ما يمس مصالح الدول الأخرى؟

 

إثارة العداوات

يقوم نهج “أردوغان” على أخذ وضعية المدافع عن الإسلام ورموزه، لكن من خلال الهجوم العنيف على الشخصية المستهدفة، وتعمُّد الإثارة، والتجاوز اللفظي ضدها، حتى يبدو أمام المسلمين بمظهر المنفرد بالدفاع الشجاع عن الإسلام. ولا يتورع “أردوغان” في هذا السياق عن إعادة إثارة عداوات تاريخية، ومحاولة استرجاع حروب دينية بهدف الاستحواذ على مشاعر المسلمين، وتملكها، والسيطرة عليها من خلال القذف بها في مجال العداء الديني، ولاسيما التاريخي، دون مراعاة لخطورة ذلك على علاقات الدول والشعوب مع بعضها، وخصوصا الأقليات الدينية على اختلافها التي لا يخلو منها نسيج أي دولة. وقد يتسبب إعادة إشعال “أردوغان” تلك النعرات والحروب الدينية التاريخية في اندلاع مصادمات بين أبناء الأديان والأعراق المختلفة داخل الدولة الواحدة.

 

ورغم أن أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول -صلى الله عليه وسلم- القائمة حاليًا تنحصر من ناحية الأطراف الفاعلة في فرنسا، وبدأت بإعادة نشر صحيفة “شار إبدو” لها في أوائل سبتمبر الماضي، ثم تركزت في الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي تبنى استمرار نشر الرسوم، والسماح بإقحامها في عملية التعليم رغم أنها ليست جزءًا من المقررات الدراسية، عمد “أردوغان” إلى توسيع نطاق الأزمة، وحوّلها إلى مواجهة مع الغرب، معتبرًا الرسوم المسيئة دليلاً على “اتجاه الغرب إلى إعادة إطلاق الحروب الصليبية”، بحسب ما قال في كلمته أمام المشرعين من حزبه (العدالة والتنمية) في البرلمان قبل يومين، متخليًا عن مسؤوليته كرئيس دولة وشخصية دولية، تتحمل واجب عدم تكدير حالة السلام القائمة بين أغلب الدول المسلمة والمسيحية في العالم، والمخاطرة بإثارة النزاعات فيما بينها.

 

سباب وتلاسن

ولا يكتفي “أردوغان” في التعاطي مع الحوادث الدينية بتعمد الإثارة الحادة، ولكن يسمح لنفسه بتجاوز أدبيات الخطاب الدولي بين قادة الدول في الحديث عن القضايا محل الخلاف، فيلجأ إلى السباب والتلاسن وعدم احترام مقام رئيس الدولة الذي يهاجمه، ففي أزمة الرسوم المسيئة تمادى “أردوغان” في مهاجمة “ماكرون” إلى حد اتهامه بـ”الجنون والحاجة إلى اختبار وعلاج عقلي”، واصفاً هدف نظيره الفرنسي من الانخراط في الأزمة بأنه “شخصي وسلبي وجبان”، دون أن يعطي الأولوية في توظيف الأزمة دولياً للتعريف بالمكانة الدينية والقيمة الإنسانية للنبي محمد، أو يهتم بكسب تأييد المجتمع الدولي من خلال توضيح خطأ الخطاب الفرنسي الحالي في تبرير الإساءة إلى الإسلام ونبيه بحرية التعبير، مثل النهج الذي التزم به الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي بين لـ”ماكرون” أن “الحرية إذا مست مشاعر الآخرين تصبح تطرف، وأنها يجب أن تتوقف عندما يصل الأمر إلى جرح مشاعر أكثر من مليار ونصف مليار إنسان”، وكذلك رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، الذي لفت أنظار العالم إلى أنه “كان بإمكان ماكرون التصرف بحكمة لحرمان المتطرفين من أي ذرائع”.

 

ويتمحور نهج “أردوغان” في التعامل مع الحوادث ذات البعد الديني حول غاية أساسية، تقوم على استغلال الإسلام والمشاعر الدينية للمسلمين، وخلق مجال لها عبر دول العالم الإسلامي، يمكنه من كسب تعاطف المسلمين، وهذا هو التوصيف الدقيق لنهجه، وتندرج أهداف “أردوغان” في استغلال مشاعر المسلمين ضمن التوجه، الذي تبناه في السنوات الأخيرة، ويسعى من خلاله إلى التوسع الإقليمي عبر إثارة التوترات والأطماع مع دول المنطقة، وتتوزع أهداف “أردوغان” في استغلال مشاعر المسلمين على مسارين: الأول، محلي يهدف إلى ترميم شعبيته المتضررة نتيجة إفراطه في الاستبداد السياسي وقمع الخصوم وانتهاكه المتصاعد للحريات العامة، وفشله في معالجة الأزمة الاقتصادية، التي تعصف بالبلاد منذ أكثر من سنتين.

 

استحواذ آثم

والمسار الثاني، إسلامي النطاق، ويهدف إلى الاستحواذ الآثم على الوجدان الديني للمسلمين، وقيادة مشاعرهم بما يخل بانتمائهم إلى دولهم ومجتمعاتهم، ويؤدي إلى خلق ولاءات له داخلها، تعزز نفوذه المعنوي وتخلق قابلية لتدخل نظامه في شؤون دولهم الداخلية، ما يعني إستراتيجياً هز تماسك نسيج هذه الدول وزعزعة استقرارها، وتحويل الاستحواذ على المشاعر الدينية لشعوبها إلى أداة للتغلغل فيها، ويعتمد “أردوغان” في تحقيق أهداف هذا المسار على إثارة الموضوعات محل الاعتزاز المشترك لدى عموم المسلمين، مثل الفتوحات الإسلامية والمواجهات التاريخية مع الإمبراطوريات التي كانت مناوئة للإسلام، وإعادة التعاطي مع الإنجازات التاريخية لبعض قادة المسلمين، للاستمداد من وهجهم، وإعادة تقديم نفسه من خلالهم؛ أملاً في التخلص من الصورة السلبية، التي ارتسمت له في مخيلة الأتراك والمسلمين.

 

فخلال إثارته لأزمة إعادة تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد في يوليو الماضي، تعمد “أردوغان” وأجهزته الإعلامية إلى استرجاع الأجواء، التي حولت فيها الدولة العثمانية كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، عقب فتح العثمانيين القسطنطينية في عام 1453، وتوظيف إيحاءاتها عبر إسقاطها على “أردوغان” في الحاضر، فالأتراك وعموم المسلمين من المنظور الديني التاريخي يرون في تحويل آيا صوفيا من كاتدرائية إلى مسجد إنجازاً يرمز إلى هزيمة الدولة البيزنطية، التي كانت تناصب المسلمين ودولتهم العداء، وقد جرى إعادة نسبة هذا الإنجاز لـ”أردوغان” ونظامه، وبمثل ما كان تحويل الكنيسة إلى مسجد انتصاراً ضد العالم المعادي، فإن إعادة تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد يحمل إيحاء انتصار “أردوغان” على أعدائه وخصومه في الداخل والخارج، كما أن إعادة “أردغان” متحف آيا صوفيا إلى مسجد حوله في تصور البعض إلى معادل معاصر للسلطان محمد الفاتح، الذي فتح القسطنطينية، وحول كنيسة آيا صوفيا في البدء إلى مسجد، فبدى “أردوغان” كما لو كان قائداً للمسلمين بمثل ما كان محمد الفاتح خليفة لهم.

 

استمالة العواطف

ويوهم “أردغان” مؤيديه والمتعاطفين معه بأنه يدافع عن الإسلام، وهذا زعم لا يثبت عند التمحيص؛ لأنه يوظف مواقفه التي يبدو فيها مدافعاً عن الإسلام في استغلال مشاعر المسلمين، كما أن الدفاع عن الإسلام يقتضي اتباع النهج العقلاني الصحيح، الذي يرتكز على الشرح والتفسير والتعريف وإزالة الأخطاء والالتباسات لدى الطرف الآخر، والجمهور الذي يشاركه معتقداته، والالتزام بقيم الحوار المتزن الموضوعي البعيد عن الإثارة والتهييج، ولكن “أردوغان” لا يهتم على الإطلاق بتصحيح المفاهيم الخاطئة للطرف الآخر عن الإسلام أو التعريف بقيمه، ولا يقوم بأي جهد يمكن أن يدخل في دائرة الدفاع عن الإسلام، وإنما يهتم باستمالة المسلمين وإثارة عواطفهم من خلال اللجوء إلى خطاب انفعالي يستثير المشاعر.

 

وبالرغم من إتقان “أردوغان” للحيل التي يستغل بها مشاعر المسلمين، فإن لم يحقق المكاسب والأهداف التي يطمح إليها، فحتى عند مجاراته في زعم دفاعه عن الإسلام، نجد أنه دائماً ما يعطي صورة مشوهة عن الإسلام، ويرسخ في هذا السياق الصورة الخاطئة الأساسية لدى الطرف الآخر، ثم يعطي مجالاً أوسع للتشويه من خلال دفع أبناء جلدة الطرف الآخر إلى التعاطف والتحيز معه في مواجهة الاعتداءات اللفظية لـ”أردوغان” عليه، كما أضرت دعوته إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية بالإطار الشعبي، الذي انطلقت منه دعوات المقاطعة على مستوى دول العالم الإسلامي، بالإضافة إلى إضراره ببلاده من الناحية القانونية؛ لأن دعوته الرسمية إلى المقاطعة أعطت الاتحاد الأوروبي الفرصة لمعاقبة تركيا نتيجة إخلال “أردوغان” بمعايير الاتحاد الأوروبي في حماية منتجات الدول المنضوية في إطاره.

 

وأثار تحرك “أردوغان” بإعادة تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد انتقادات دولية واسعة، منها ما صدر عن المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة “اليونسكو”، التي حذرت من أن لجنة التراث العالمي ستراجع استمرار إدراج آيا صوفيا ضمن قائمة التراث العالمي بعد القرار التركي الأخير، ويؤدي الخطاب الانفعالي لـ “أردوغان” في التعاطي مع الأحداث الدينية إلى زيادة توتر الأجواء وتصاعد حدتها، وتأجيج الروح العنصرية عند المتشددين من الطرفين، ما يدفع بعضهم إلى ارتكاب جرائم بشعة، مثل المراهق الشيشاني الذي قطع رأس المدرس الفرنسي صامويل باتي، والشاب التونسي إبراهيم العيساوي الذي قتل ثلاثة فرنسيين أمس قرب كنيسة نوتردام في مدينة نيس، إحداهم امرأة تبلغ من العمر 70 سنة ذبحها بسكينه وقطع رأسها، وأمام هذا النهج المكشوف لـ”أردوغان” في استغلال مشاعر المسلمين، وتسخير تعاطفهم له في خدمة مصالحه؛ يتوجب عليهم الانتباه إلى مآربه، وعدم إعطائه الفرصة لاختراق دولهم، وإضعاف استقرارها وتماسكها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى