الأخبار

يربك المشهد كثيراً (البرهان).. كيف يفكر..!

الخرطوم | برق السودان

رغم مضي أكثر من ثلاث سنوات من عمر الفترة الانتقالية، الا انه بات واضحاً صعوبة التكهن بمعرفة الطريق الذي يسلكه الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان، او معرفة خطوته القادمة وان شئنا الدقة تكمن الصعوبة في معرفة الكيفية التي يفكر بها الجنرال الذي امضى 40 عاماً وشهراً في خدمة القوات المسلحة. فكلما تحاول ان تقترب من معرفة اسلوب البرهان لادارة المشهد بكل تعقيداته يستعصي عليك الوصول لنتيجة واضحة، ربما لأبعاد شخصيته الصارمة والغامضة في ذات الوقت، رغم انه ارتدى زي السياسيين من خلال مخاطباته الجماهيرية واخرها بنهر النيل والعسكرية في حطاب.

ظهور مفاجئ

قبيل تغيير الحادي عشر من ابريل 2019 لم يكن الفريق اول عبد الفتاح البرهان من الشخصيات العسكرية ذات الصيت لدى الاوساط الاعلامية، رغم أن اسمه قفز بشكل مفاجئ صبيحة زوال حكم الانقاذ حتى خرج الفريق اول عوض ابن عوف مقدماً خطاباً معلناً استلام مقاليد السلطة بالبلاد وازاحة المشير البشير، غير ان الاول سرعان ما غادر المشهد في حالة ربما تكون نادرة بالعالم ويخلفه الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي وخلال الاربعة الاشهر الاولى لم يتسن للناس معرفة تفاصيل سبر اغوار شخصية (الجنرال) وخلال الثلاثة اعوام من عمر الانتقال استطاع نزع فتيل الالغام التي زرعت في طريقه خاصة من شركائه بالامس من قوى الحرية والتغيير، والتي لم تتوافر بينها وبينهم ادنى درجات الثقة رغم الوثيقة الدستورية التي جمعتهما وسماحه للحرية والتغيير باطلاق يدها للبطش بالاسلاميين بواسطة لجنة ازالة التمكين واعتقاله لقيادات الانقاذ حتى اللحظة بأمر من المجلس العسكري وتحولت بعضها لاحقاً الى بلاغات جنائية بمواجهة المعتقلين.

ولكن تمكين البرهان للحرية والتغيير جعل الاخيرة في مواجهة مع الشارع بسبب عمليات الفصل التي طالت غير الاسلاميين عبر لجنة ازالة التمكين وأدخلت قحت في عداوة صريحة مع الاسلاميين، جعلت البرهان وكأنما يتفرج من شرفة مكتبه بالقصر الرئاسي على الحرب الضروس بين الحرية والتغيير والاسلاميين دون ان يكون طرفاً فيها واستبق تلك الخطوة بسحب رئيس لجنة التمكين الفريق ياسر العطا من رئاسة اللجنة بتقديمه لاستقالة مدوية حينذاك ابعدت اللعنات عن المؤسسة العسكرية.

العلاقة مع أطراف السلام

لم يكن احد يصدق ان تنحاز اطراف سلام جوبا خاصة حاملي السلاح للمؤسسة العسكرية التي ظلت تحاربها لسنوات طويلة تم ذلك بذكاء – ان لم يكن مكر – البرهان كانت قحت ترتب ان تكون الحركات ذراعها العسكرية التي تواجه بها المؤسسة العسكرية وذهبت لمفاوضتها في العاصمة الاثيوبية أديس أبابا وتفاجأت بان الحركات كتلة قائمة بذاتها وفشلت في اقناعها بالعودة للخرطوم ونجحت في هذه المهمة المنظومة العسكرية في جوبا بواسطة نائب رئيس مجلس السيادة الفريق اول ركن محمد حمدان دقلو والفريق اول ركن شمس الدين كباشي ومن يومها تقاربت المسافات ما بين البرهان والحركات وتباعدت بعض الشيء مع الحرية والتغيير وكانت المفاصلة في اعتصام القصر وبعدها اجراءات الخامس والعشرين من اكتوبر فيما عرفت بقرارات البرهان. وانتظم عدد مقدر من الحركات وعلى رأسها العدل والمساواة في تحالف (التوافق الوطني) الذي دخل في صراع شرس مع المركزي لا زالت تفاصيله مستمرة حتى اليوم والجنرال بهدوئه المعهود يتابع ذلك السجال.

التطبيع.. القنبلة..!!

لم يكن احد يتوقع ان يجرؤ البرهان على التقارب مع اسرائيل دعكم من التطبيع معها، وهو الملف الذي ظلت الانقاذ تتحاشى الحديث حوله رغم رغبات بعض قياداتها في اهمية التطبيع مع إسرائيل حيث قاد البرهان معركة التطبيع بمفرده بمعزل عن شركائه المدنيين باستثناء رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك الذي كان على علم مسبق بالخطوة، وهو الامر الذي اعلنه البرهان في لقاء تنويري مع قادة الصحافة والاعلام، خطوات التطبيع يمكن تفسيرها ان الجنرال يعتمد على اسلوب المباغتة وهو الذي يشكل صدمة للطرف الاخر ويشل تفكيره كما انه يجعله -اي البرهان- في مأمن ولا يتأثر بالضغوط رغم ان تيارات سياسية تصفه بالمتردد باتخاذ القرار مستندين على مرور عام كامل لاجراءاته التي اتخذها في اكتوبر قبل الماضي والتي لم تتنزل بكاملها الى ارض الواقع.

البرهان وجنوده

لم يتعرض قائد عسكري الى محاصرة من جنوده مثل ما تعرض البرهان، من خلال المحاولات الانقلابية التي تعرض لها نظام حكمه، حيث باءت جميعها بالفشل رغم التقدم الذي تم في محاولة اللواء بكراوي، استفاد البرهان من موقعه السابق كمفتش عام للجيش في اجراء تغييرات واسعة داخل المؤسسة العسكرية من خلال عمليات احلال وابدال وتنقلات واسعة وسط الضباط ساهمت في بسط سيطرته على الجيش رغم ان الانقلاب العسكري لا يحتاج سوى لضابط مغامر، ولعل اكبر التحديات التي واجهت قائد عام الجيش هي عملية ترتيب البيت الداخلي خاصة في ظل دعوات المدنيين بهيكلة القوات المسلحة، حيث اعتمد في عملية الترتيب على المقربين منه وتحديداً من ابناء دفعته (الدفعة 31) حيث تولى رئاسة الاركان دفعته الفريق اول ركن محمد عثمان الحسين وتولى قيادة جهاز المخابرات عقب التغيير دفعته أبوبكر دمبلاب وخلفه كذلك ابن دفعته الفريق اول جمال عبد المجيد الذي تم اعتماده امس الاول (الخميس) سفيراً للسودان لدى جوبا وهذه الخطوة نفسها تأتي في اطار تأمين العلاقات مع دولة جارة محورية مثل الجنوب وحتى استثمارات وتقنيات الجيش اسندها لابن دفعته الفريق اول ميرغني ادريس والذي لمع نجمه مؤخراً بملف التسوية الجارية.

الجنرال والخارج.

مع أن الاطراف المدنية تتفوق في علاقاتها الخارجية على المؤسسة العسكرية الا ان البرهان قلب الطاولة وفي اوج الخصومة بينه والمركزي هبط الخرطوم سفير امريكي ظل منصبه شاغراً لاكثر من ربع قرن وتسلم البرهان رئاسة الايقاد من عبد الله حمدوك وكانت المفاجأة في تلقيه دعوة رسمية للمشاركة في مراسم تشييع ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية وكانت هذه الدعوات مصحوبة بالاعلان عن عدم توزيعها لقادة دول مثل رئيس مينامار بحجة وصوله لسدة الحكم عبر انقلاب عسكري وكذلك عدم توجيهها لرئيس سوريا بشار الاسد وايضاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبعدها غادر البرهان مترأساً وفد السودان باجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة، حيث سهلت له واشنطن تأشيرات الدخول له والوفد المرافق بعكس تعنتها بالسابق مع المشير البشير، كما ان الرجل شارك خلال الشهر الجاري بالقمة العربية بالجزائر وقبل ايام بقمة المناخ بشرم الشيخ .

الشاهد ان رئيس مجلس السيادة الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان، قام بجولات خارجية مهمة ومتعددة في اشارة بليغة الى ان الجنرال لا يعاني من عزلة خارجية.

العلاقة مع الدعم السريع

سواء أكان هنالك خلاف عن صراع او تنافس – سمه ما شئت- بين الجيش والدعم السريع من عدمه، فان الرأي الرسمي الصادر من البرهان وحميدتي بأن (لا خلاف).. والعلاقة مع الدعم السريع هي واحدة من اكبر التحديات التي واجهت البرهان منذ وصوله سدة الحكم، وذلك أن البعض يروج بتمدد الدعم السريع بعد ان غض البرهان الطرف عنه واخرين يقولون ان علاقة الرجلين في -اشارة للبرهان وحميدتي- يكتنفها الغموض لكن ظل البرهان حريصاً على عدم حدوث تقاطعات بين المؤسستين اللتين بينهما بون شاسع فالمؤسسة العسكرية السودانية راسخة منذ عقود ولعبت ادواراً بالمحيط الاقليمي وظلت من المؤسسات التي لم تتعرض لاي انهيار مثل جيوش بالمنطقة، رغم الدعم الكبير الذي تلقته الحركات التي قاتلت الجيش وفي مقدمتها الحركة الشعبية الجنوبية بقيادة جون قرنق. ولعل البرهان في تعامله مع الدعم السريع يضع في اعتباره التاريخ الكبير والعريض للمؤسسة العسكرية التي يقودها.

الإسلاميون وصراعات القوى السياسية

وفي الآونة الاخيرة اظهر البرهان تحولاً جديداً في تعاطيه مع متغيرات المشهد بدءاً من ما عرف بالتسوية السياسية التي ذهب البعض الى ان الجنرال قد يكون دخل لمباراة غير متحسب لها، كما ظل يفعل طيلة السنوات الماضية باعتماده على اسلوب المناورة والمباغتة احياناً وقتل الوقت في احايين كثيرة، والامر الثاني المتعلق بموقفه الاخير من الاسلاميين ولربما للمرة الاولى يوجه تحذيراً شديد اللهجة للحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني في آن واحد، كان ذلك خلال اخر خطاب اطل به الرجل وسط قواته بمنطقة حطاب العسكرية، ربطها البعض بارجاع بعض المعتقلين وفي مقدمتهم الرئيس السابق البشير من مستشفى علياء لسجن كوبر ولربما استفاد البرهان من التناقضات والصراعات التي يعيشها المكون المدني والقوى السياسية وربما استفاد كذلك من ضعف رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك وحكومته، ولكن بكل الأحوال من الصعوبة بمكان الاستثمار في اخطاء الاخرين طوال الوقت.

فالتسوية السياسية المرتقبة اياً كان شكلها فإن البرهان وحده سيتحمل مسؤولياتها بشكل مباشر، وستحدد نتائجها بشكل قاطع مستقبله السياسي رغم اعلانه النأي بالمؤسسة العسكرية عن المشهد السياسي، فمساحات المناورة ضاقت والفرص تضاءلت نسبة للاوضاع التي تعيشها البلاد وفي الفترة المقبلة قد يحتاج قائد عام الجيش الى التفكير كثيراً قبل اتخاذ اي قرار، فالفترة الماضية من عمر الانتقالية لن تكون مثل المرحلة المقبلة، خاصة وان الشارع لم يعد ملكاً لجهة واحدة وحتى الحركات التي كانت ستقاتل الى جانبه للحفاظ على مكاسبها حتى لو تخلى عنها البرهان.

تشاكسات القوى السياسية

استطاع الجنرال خلال الثلاث سنوات ويزيد أن يسهم في علاقة فاترة بين الشعب والمكونات السياسية حيث إنه ظل من على البعد يتابع تشاكسات القوى السياسية المتصارعة حول المغانم حول السلطة، الامر الذي اسهم في تعطيل مسار الانتقال وتفاقم الازمات وهو ما تمخض عنه واقع اقتصادي سيئ قاد الى فقدان الكتل السياسية ثقة الشعب عوضاً عن حالة السيولة الامنية والتي رسمت سيناريوهات غامضة جعلت من تواجد المكون العسكري في اي معادلة كشريك اساسي مهماً.

ويرى مراقبون أنه وبعد ثلاث سنوات خسرت كل الاطراف، أما الاحزاب بتصدعات او التحالفات بانشقاقات باينة على غرار المجلس المركزي أحد اطراف الازمة نفسه، فيما تغيرت موازين الملعب السياسي الذي اخذ تمظهرات عدة منذ سقوط البشير مع توقعات بشكل جديد للساحة السياسية عبر تسوية لتشغيل قطار الانتقالية المتعثر وعلى ضوء ما ذُكر من متغيرات يبقى (البرهان) الثابت الذي لم يتغير، حيث ظل على رأس المعادلة والذي استطاع الحفاظ على تواجده وان كان بقبول اقليمي ودولي اكبر واقوى من اي وقت، لقيادة انتقال يعد الأعقد بتاريخ البلاد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى