الخرطوم | برق السودان
حيثما تول وجهك في حواضر السودان وأريافه تجد أضرحة وقباباً تقف شاهدة على تاريخ ضارب في جذور التدين الصوفي لدى أهاليه.
في حين ينظر إليها الأشخاص الذين ليس لديهم اعتقاد فيها بأنها ملمح ثقافي و”سوسيولوجي” من باب السلوك وأنماط التفاعل في العلاقات التي تشكل ثقافة الحياة اليومية لمجتمعات السودانيين.
وبحسب المؤرخين، فإن “ثقافة الأضرحة والقباب”، وفدت إلى البلاد عبر البوابات التي دخل منها فقهاء المتصوفة من المغرب العربي ومصر وغرب أفريقيا، أول عهد السودانيين بالإسلام، وأصبحت مقامات الأولياء جزءاً لا يتجزأ من معالم الهوية، وهي تعود بحسب اعتقاد البعض إلى رجال عرفوا بالصلاح والتقوى والدعوة إلى الخير والمحبة، وتحظى بتبجيل الذين يقصدونها لأسباب عدة.
التصميم والشكل
يمكن وصف الضريح أو “القبة” (مفردة قباب) بأنه بناء مشيد على القبر “أي فوقه”، ويتميز ببساطة الشكل والتصميم عادة، ولا يرقى إلى شكل العمارة الدينية كالمساجد، ولا العمارة المدنية كالقصور والمنازل. وتعلوه في الغالب القبة التي تكبر أحياناً وتتسع لتشمل الضريح، ويسمى “قبة الشيخ فلان”، وتمثل بدورها رمزاً ذا قداسة، وقد تكون مفتوحة المداخل لينال المريدون البركات أو مغلقة ليتمسحوا بجدارها.
قدرات خاصة
أستاذ التاريخ في إحدى الجامعات السودانية، فتح العليم عبدالله، قال “بدأت الأضرحة تظهر في المقابر منذ القرن السادس عشر وتحديداً في فترة السلطنة الزرقاء، التي برزت كأول نظام حكم إسلامي عام 1504، واستمرت حتى غزا الأتراك السودان عام 1821. والقبة هي بناء على قبر رجل دين أو أحد الأولياء دلالة على مكانته الدينية وسط المجتمع، لكن الملاحظ أن معظم هذه القباب تخص الرجال وليس النساء إلا نصيب ضئيل منها، كما أن اتخاذ الأضرحة على قبور من يعتقد صلاحهم من الموروثات الثقافية في السودان”.
مكانة ثقافية
يضيف فتح العليم “حسب الاعتقاد فإن الولي له قدرات خارقة في علاج المرضى وفك الكربات، وله كرامات، كما أن الضريح يعد مكاناً أميناً لحفظ الودائع والأمانات التي سافر أصحابها لأمر ما خارج المحيط الذي يحتضن الولي الصالح، ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها خوفاً من انتقام الشيخ، الذي قد يصيب السارق بعلة يستحيل علاجها”.
كما أشار إلى أن “القباب أو الأضرحة مكان للفأل الحسن وطرد الأرواح الشريرة والحسد، لذا تجد أن الناس يأتون بالأطفال حديثي الولادة، أو الصبية المختونين ومعهم الذبيحة لنيل البركات. وهناك يجتمع أيضاً الفقراء لأكل الوليمة أو النذر كما يسميه العامة. كذلك يأتي العريس أيضاً يوم زفافه إلى الضريح بحثاً عن البركات والقوة، وأن يرزقه الله الذرية الصالحة بشفاعة الولي”.
أضرحة وهمية
الصحافي والباحث في التاريخ الاجتماعي وجدي الكردي قال “الأضرحة معالم جنائزية تذكارية، ليست بالضرورة أن تحمل في جوفها رفات فيزيائية حقيقية”.
ويستدل بحالة وصفها بالفريدة لما سماه “المتخيلة/ الوهمية” في السودان. ففي عام 1964 حين أوشكت بحيرة السد العالي على إغراق مدينة وادي حلفا، قررت السلطات نبش رفات الولي “سيدي إبراهيم الميرغني المحجوب”، أحد أقطاب طائفة المراغنة الشهيرة، قبل أن تغمره المياه وهو المدفون منذ عام 1908.
وأضاف الكردي “بعد نبشه ووضعه في تابوت، اختلف الأهالي حول وجهة القبر الجديد لـ(الولي الصالح)، أين يكون”. وكان من رأي علي الميرغني وهو كبير المراغنة، أن يعاد دفنه في الخرطوم حيث الجبانة المعروفة التي تحمل اسم العائلة “مقابر المحجوب”. ورأى أهالي حلفا أن بلدتهم احتضنت الرفات لأكثر من 56 عاماً وهم الأولى به في مدينتهم الجديدة، فيما تمسك فريق ثالث أن يوارى في الثرى في الأرض ذاتها التي كان عليها، قبل أن يحسم بيت الميرغني الجدل، ويأمر بمواراة المحجوب في حلفا”.
ومع ذلك -والحديث للكردي- “أصر أهالي المدينة على تشييد قبر متخيل/ وهمي، للولي الصالح إبراهيم الميرغني المحجوب، الذي أصبح له ضريحان ومزاران يبعد أحدهما عن الآخر مئات الكيلومترات”.
ويعلق على القباب المتخيلة/ الوهمية “هناك نسخة لضريح الشيخ عبدالقادر الجيلاني الموجودة في بلدة حوطيت على ساحل البحر الأحمر في إريتريا، مع أن رفات الجيلاني الأصل مدفونة في مدينة بغداد العراقية”.
وختم الكردي بالقول “هناك أضرحة سودانية عابرة للحدود، مثل ضريح هاشم الميرغني وكريمته الست علوية، في مدينة مصوع الإريترية”.
مزارات سياحية
هناك عدد كبير من القباب والأضرحة في السودان، أشهرها ضريح الشيخ حمد النيل في مدينة أم درمان، وأصبح مزاراً سياحياً وترفيهياً يؤمه الأهالي والأجانب من أركان الدنيا أيام الجمعة، للاستمتاع بحلقات الذكر ومهرجانات الملابس الصوفية الملونة، التي تتأرجح وهي تقارب الرقصات الفلكلورية البديعة.
وهناك قبة الشيخ محمد عثمان البرهاني (شيخ الطريقة البرهانية) في الخرطوم، ويأتي للاحتفال بذكراه سنوياً المئات من المسلمين الأوروبيين من “مريدي الشيخ”، الذي له حضور واسع في كثير من بلدان القارة العجوز، بخاصة المدن الألمانية.
كما يوجد ضريح الشريف الهندي في ضاحية بري شرق الخرطوم، وضريح الشيخ قريب الله في حي ودنوباوي بأم درمان، وضريح الشيخ دفع الله (الصائم ديمة)، وكذلك ضريح الشيخ الحاج يوسف دهاشة، مؤسس حي “الحاج يوسف” الذي يضم نحو نصف مليون نسمة في منطقة شرق النيل، فضلاً عن ضريح “الكباشي” شمال الخرطوم، إلى جانب أضرحة “ود بدر” الشهيرة أو أرباب العقائد أو حسن ودحسونة، وجميعها في مناطق شرق نيل الخرطوم.
أما الأشهر خارج العاصمة فهو ضريح إبراهيم الأبكراوي في منطقة الأراك (400 كيلومتر شمال الخرطوم)، وقبة الشيخ عبدالباقي المكاشفي بقرية الشكينيبة في ولاية الجزيرة جنوب العاصمة، وضريح السيد الحسن في كسلا شرق السودان، وهناك ضريح إسماعيل الولي في مدينة الأبيض غرب البلاد.
واللافت في الأمر أن منطقة أبي حراز الواقعة في ولاية الجزيرة تضم وحدها ما يقارب 36 ضريحاً.
أنواع الأضرحة
الباحث السوداني في التاريخ الحديث، محمد الشيخ الطاهر، قال “إن الأضرحة تعد جزءاً أصيلاً من ثقافة السودانيين، وتمثل في العرف الشعبي رمزاً للتقوى والصلاح، ومكاناً لالتماس البركة والخير والدعاء المستجاب”.
وبحسب الطاهر، فإن الأضرحة تنقسم إلى أنواع منها ما يضم رفات صاحبه، ومنها أخرى خاصة بالرؤيا، وهي تلك التي تم تشييدها بعد رؤية أحد الأولياء الصالحين في المنام في موقع بعينه. وهناك القباب “الوهمية” التي لا تحتوي على رفات، وتم إنشاؤها تبعاً لرغبات سياسية أو دينية أو حسماً لخلافات المريدين.
الأكثر زيارة
ويتصدر ضريح الشيخ حمد النيل في مدينة أم درمان العاصمة الوطنية قائمة أكثر القباب زيارة في السودان. وكان من المناوئين لدولة المهدية التي أسست عام 1885، فسجنه الحاكم عبدالله التعايشي بسجن “الساير” في البقعة حتى اعتلت صحته ومات في زنازينها.
وبنى له مريدوه لاحقاً ضريحاً ومسجداً في المكان الذي قبر فيه، تكون حول الضريح واحدة من أكبر جبانات مدينة أم درمان “مقابر حمد النيل”.
وأشار الباحث السوداني إلى أن طقوس زيارات الأضرحة، “ظاهرة متجذرة في الثقافة المحلية، بالتالي لا يجد كثيرون حرجاً في التوجه إلى مزارات الأولياء”.
وأضاف “أثناء الطقوس ينخرط البعض في تنظيف المكان وتعطيره بالبخور وتنظيم الحشود، ويشرع آخرون في تقديم الهدايا لخليفة الولي الصالح لاسترضائه ونيل ما يرجوه من نفع له، أو دفع أذى يتوقعه”.
طقوس خاصة
ومضى الطاهر قائلاً “في ضريحي محمد النيل وإسماعيل الولي تحتفظ النوبة (آلة إيقاعية من نوع الطبل) بأهمية خاصة، لأن الآلاف يحتشدون كل جمعة لإحياء طقسهم بجوار قبة شيخهم. يبدأ النقر على آلات النوبة العملاقة بعد صلاة العصر، وتنتهي مع رفع أذان المغرب، إذ يصطف الأتباع والمريدون في دائرة هائلة بأزيائهم الملونة التي يطغى عليها اللونان الأخضر والأحمر لإنشاد الأذكار”.
هنا، ليس من وصف أبلغ مما نظم الشاعر السوداني محمد المهدي المجذوب “وهنا حلقة شيخ يرجحن/ يضرب النوبة ضرباً فتئن وترن/ ثم ترفض هديراً أو تجن/ وحواليها طبول صارخات في الغبار/ حولها الحلقة ماجت في مدار/ نقزت ملء الليالي/ تحت رايات طوال/ كسفين ذي سوار/ في عباب كالجبال”.
اقرأ ايضاً :