الأخبارالإقتصادتقارير

السودان ما بعد ثورة ديسمبر.. ما الذي تغيّر؟

الخرطوم | برق السودان

يوصف نظام البشير بأنه من أفسد الأنظمة التي مرت على السودان بشهادات عراب النظام (حسن الترابي) فالوضع الشائك الذي عليه الاقتصاد وتركيبة مؤسساته خلق طبقة طفيلية تتغذى على الموارد استغلت حالة العزلة التي يعيشها السودان وقامت ببناء اقتصاد موازٍ بالكامل، وفي تصريحات سابقة ذكر أحد جنرالات الأمن الاقتصادي أن وزارة المالية السودانية تضع يدها على 30% فقط من المال (مال الدولة)، وطالب وزير التجارة الأسبق بتصفية 400 شركة حكومية وإخراجها من السوق حيث إن مواردها لا تصب في وزارة المالية ولا تخضع للمراجعة العامة للدولة.

فالذي حدث أن النظام أخرج الرأسمالية الوطنية من السوق وأدخل شركاته ومؤسساته التي تتمتع بالامتيازات، وعجز نظام البشير في مكافحة الفساد، أنشأت مفوضية للفساد في العام 2011 ولكنها فشلت في تقديم أي مسؤول كبير بتهمة الفساد، بل امتنع المسؤلون والوزراء من تعبئة إقرار الذمة المالية، وهذا يفسر بأن النظام لم يكن جادا بشأن مكافحة الفساد، ولكنه أنشأ هذه المفوضية لتفادي الضغط الذي كانت تعيشه دول المنطقة في حقبة ما كانت تعرف بـ (الربيع العربي).

البشير

العزلة

هذا وبسبب التوجه المتطرف لحكومة البشير ورفعها لشعارات عدائية منذ أيامها الأولي مثل (أميركا روسيا قد دنا عذابهما) وجمع كل الإسلاميين المتطرفين في السودان، انتهي هذا التوجه بوضع أميركا اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993، وفرضت عقوبات اقتصادية على السودان من قبل الولايات المتحدة في الأميركية في 1997، عاش السودان في عزلة وتفاقمت أوضاعة الاقتصادية بسبب سياسات وتوجهات خاطئة كانت تداعياتها كارثية، قدر التأثير لهذه العقوبات على الاقتصاد السوداني بحوالي 50 مليار دولار، حيث ارتفعت تكلفة التبادل التجاري وقلت الفرص الاستثمارية، وارتفعت تكلفة الاقتراض وحرم السودان من الاستفادة من المساعدات والمنح وأيضا حرمته من الاستفادة من نقل التكنولوجيا، هذه العزلة للسودان ترافقت مع نشوء اقتصاد موازٍ تتدفق عبره تحويلات المغتربين وتتدفق عبره الواردات ولا تستطيع وزارة المالية بسط ولايتها وسلطتها، عليه هذا التشوه لا يزال مستمرا.

داخليا حكومة البشير بدأت باعتماد سياسة تحرير الاقتصاد، وتمت خصخصة وبيع لمؤسسات القطاع العام وهذه العملية نتج عنها تشريد آلاف العمال والموظفين، وتمت هذه العملية في غياب تام للشفافية، وفتح الباب أمام الفساد وتم بيع مؤسسات ناجحة تحولت ملكيتها من الدولة للقطاع الخاص، والمهم أن نذكر أن هذا التحول كان يحتاج إلى قطاع خاص قوي وفاعل والحقيقة أن القطاع الخاص لم يكن بالقوة التي تمكنه من إحداث نقلة في هذه المؤسسات، إضافة إلى ذلك التخريب والتدمير الذي تسببت فيه هذه السياسة للمشاريع الزراعية وتسببت في تدني الخدمات في هذه المشاريع وتراجعت الإنتاجية فكانت سياسة فاشلة وخطوة أخرى فاقمت من الأوضاع الاقتصادية.

الفرصة والفشل

وخلال العقد الثاني من حكمه توفرت لنظام البشير فرصة إعادة هيكلة الاقتصاد السوداني عندما توفرت موارد هائلة لنظامه عبر عوائد البترول (2000-2010)، خلال هذه الفترة قدرت العوائد التي تحصلت عليها الحكومة بحوالي 70 مليار دولار كان متوقعا أن تهتم السياسات الحكومية بإعادة الروح القطاعين الزراعي والحيواني، وهذا لم يحدث استمرت هذه القطاعات بالتدهور، وتحولت موازنة الدولة الاعتماد على البترول كمورد رئيسي الموازنة، حتى المشروعات التي تم تنفيذها خلال هذه الفترة كان يتم تمويلها بالقروض، عليه أضاعت حكومة البشير فرصة كبيرة في أحداث نهضة اقتصادية شاملة في البلاد واهتمت بالصرف على الأجهزة الأمنية وعلى منطماته الفئوية والجماهيرية بغرض الحفاظ على السلطة وفي سبيل ذلك طبق النظام سياسة التمكين بحيث استغل أفراده موارد الدولة وصنعوا نفوذ في السوق وكل ذلك علي حساب التنمية والنهضة وهو ما تسبب في تبديد العائد من البترول، وعندما حدث انفصال الجنوب في 2011 كانت الصدمة وبدأ مسلسل انهيار الاقتصاد.

الرئيس المخلوع

وأقر النظام برنامج اقتصادي ثلاثي 2012-2014، وقد فشل هذا البرنامج بسبب إصرار النظام على الصرف على الدفاع وعلى جهاز الدولة المترهل والصرف الدستوري والسيادي، وبعدها أعلن النظام عن برنامج اقتصادي خماسي 2015-2019 وحددت أهدافه وهي زيادة الناتج المحلي الإجمالي ب 7% والمحافظة على سعر الصرف وألا يتجاوز المعروض النقدي 8٪ ويستهدف البرنامج خفض معدل التضخم إلى ما دون ال10٪ ، وأجاز مجلس الوزراء في 2015 البرنامج الخماسي للاستقرار الاقتصادي، وفشل هذا البرنامج فشلا ذريعا تفاقمت الأوضاع أكثر، في نوفمبر 2016 رفعت الحكومة الدعم عن الدواء، استمر تراجع سعر الصرف وارتفاع معدلات التضخم، قدمت الحكومة موازنة كارثية في 2018 وسقططت في أول ست أشهر، (نفس المدرسة الاقتصادية تتحرك من فشل لآخر ويستمر التجريب والتخريب) في ديسمبر 2017 رفعت وزارة المالية الدولار الجمركي من 6.9 إلى 18 جنيه (160٪) وبدأت موجة انهيار في سعر الصرف بعد هذا القرار وتصاعدت معدلات التضخم ، في الفصل الأول من 2018 بدأت أزمة حاجة ثلاثية في الخبز والسيولة والوقود، تعطلت حياة السودانيين في البحث عن الضروريات وخرج الشارع غاضبا في ديسمبر 2018 وفي 11 أبريل 2019 سقط البشير وبدأ عهد جديد أمامه التحدي الاقتصادي لا يزال قائما.

الحكومة المدنية

أتت الثورة المجيدة، والتي أسقطت حكم البشير العسكري الذي دام لثلاثين عاما، بالأمل من جديد حيث تم تشكيل حكومة مدنية في سبتمبر 2019، وقد أتاح تغيير نظام البشير الفرصة لإجراء إصلاحات جوهرية وإعادة بناء الاقتصاد الذي كان مُثقلاً وقتها بالإختلالات الداخلية والخارجية، والإدراج في قوائم الإرهاب، وتركة المديونية الخارجية غير المستدامة، والحرمان من الوصول للتمويل الخارجي وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر.

“خروج من العزلة.. “

إن ما يمكن اعتباره انجازات تحققت في السنوات الثلاث من عمر الثورة السودانية، تُجمل في خروج السودان من العزلة الدولية سياسيا واقتصاديا كما يراها المراقبون، إلا أنهم بالمقابل يختلفون في تقييم ما تحقق على الصعيد الداخلي من شعارات الثورة في “السلام والحرية والعدالة”، خاصة بعد إجراءات قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والتي وصفها بـ”تصحيح مسار الثورة” ووصمها المعارضون له بـ”الانقلاب العسكري” على الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية.

وبينما يشير البعض إلى ما تحقق من إنجاز على صعيد ملف السلام بالتوقيع على “اتفاق جوبا” بين الحكومة والحركات المسلحة يتهكم آخرون وهم يرون دماء المواطنين لا تزال تسفك في مناطق دارفور، وسط تعثر تطبيق الاتفاق على أرض الواقع في مساراته المختلفة، ويبدو الاختلاف واضحا في ملفات أخرى كالعدالة والحريات.

” التعافي الاقتصادي بعد نجاح الثورة المجيدة في 2019‪”

رفع الحظر الأمريكي عن السودان..

بعد تشكيل الحكومة الانتقالية وبقيادة مدنية، انطلق السودان في رحلة إعادة الانفتاح على العالم واستعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع المؤسسات الدولية والجهات المانحة،وبالفعل في ديسمير2020 تُوّجت جهود الدبلوماسية السودانية عندما قامت الولايات المتحدة بإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مما سمح للحكومة الانتقالية بتلقي منح مالية من الولايات المتحدة وبريطانيا لسداد متأخراته لدى البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي، ومن هنا بدأت رحلة تطبيع التعامل مع المؤسسات المالية الدولية والاندماج في مجتمع التنمية الدولي بشكلٍ رسمي.

الحصول على دعم صندوق النقد الدولي

ومن ثم دخلت البلاد في عملية إصلاحات اقتصادية لمعالجة التشوهات الهيكلية، حيث توصلت الحكومة الانتقالية لاتفاق مع صندوق النقد الدولي حول برنامج يراقبه موظفي الصندوق، ويحتوي على سياسات مالية ونقدية صارمة، وإصلاحات ضريبية، وإصلاح دعم المحروقات التشويهي، وإصلاح نظام سعر الصرف، وإدخال برامج حماية اجتماعية للتخفيف من الأثر السلبي للتكلفة الاجتماعية المرتبطة ببرنامج الإصلاح.
وبموجب هذا البرنامج شرعت السلطات (وزارة المالية وبنك السودان المركزي) في معالجة مسألة المؤسسات الملوكة للدولة وكيفية الرقابة عليها وإرساء دعائم ولاية المالية على العام، وقدم تم تقييد وصول تلك المؤسسات للتمويل المصرفي وذلك من أجل تعزيز نمو القطاع الخاص وفتح فتح العمل التي يتيحها القطاع الخاص.

إجراءات لحد تجارة الذهب” غير المشروعة”
كما اتخذت الحكومة الانتقالية خطوات ايجابية لمعالجة تجارة الذهب غير المشروعة (تهريب الذهب)،وقامت بوضع إجراءات لصادرات الذهب التي تعزز مكانة السوق الموازي للعملات الأجنبية، وشرعت في إجراء تعديلات على قانون الثروة النفطية والمعدنية بهدف تحسين الشفافية والمساءلة والحوكمة (وهذه مُدرجة ضمن الإصلاحات المؤسسية).

جدير بالذكر أنه قد صاحب تلكم الإصلاحات ارتفاع كبير لأسعار الوقود وأسعار الخبز مما أدى إلى اضطرابات اجتماعية، ولكن بحلول صيف عام 2021 بدأت ثمار تلكم الإصلاحات بالنضوج.

إعفاء الديون الدولية للسودان بحلول 202‪4

حيث حقق السودان إنجازا بارزا في 29 يونيو2021 عندما وصل رسمياً إلى نقطة قرار الهيبك، وعندها قرر البنك وصندوق النقد الدوليين أن البلاد حققت أداءً مُرضياً على صعيد السياسات المضمنة في برنامج الإصلاح، وبالتالي أصبحت مؤهلة للاستفادة مبادرة البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون (الهيبك).
وبموجب المبادرة سيتم إعفاء حوالي 56 مليار دولار أمريكي عندما يصل السودان لنقطة الإنجاز في يونيو 2024 (هذا وفق مستند إطار إتفاقية الهيبك المعززة، والمنشور في موقع الصندوق).

ومن أجل مساعدة السودان للمُضي قدما في طريق الإصلاحات، فقد طلبت الحكومة الانتقالية توقيع اتفاق التسهيل الائتماني المُمدّد بقيمة 2.5 مليار دولار لتنفيذ برنامج مدته 39 شهراً وينتهي بإعفاء المديونية الخارجية، وذلك لمواصلة الإصلاح الاقتصادي والإصلاح المؤسسي وتعزيز الحوكمة الاقتصادية وكبح الفساد، وتعزيز شبكة الحماية الاجتماعية.

وهذا البرنامج الذي يحتوى على إصلاحات محددة في المنطقة الفاصلة بين نقطة اتخاذ القرار ونقطة الانجاز، كما أن الاستمرار في عملية تخفيف الديون الخارجية والإصلاحات الطموحة حققت أول بوادر الاستقرار الاقتصادي وخاصةً في الفترة من يوليو وحتى قبل وقوع الانقلاب في 25 أكتوبر 2021.

وكنتاج طبيعي للإصلاحات أعلاه، فقد انخفض معدل التضخم بمقدار 35 نقطة لأول مرة منذ أكثر من عام، واستمر توالي الانخفاض بعد ذلك، كما انخفض العجز المزمن في الميزان التجاري بنسبة 25% في النصف الأول من 2021 مدفوعاً بزيادة الصادرات على أساس سنوي، وارتفعت كذلك تحويلات السودانيين العاملين بالخارج من 136 مليون دولار في النصف الأول من عام 2020 إلى 717 مليون دولار في النصف الأول من عام 2021

ووفق لما هو مبين في مسودة تقرير الموازنة العامة للدولة لسنة 2022 فقد انخفض عجز الحساب الجاري من 5.8 مليار دولار في عام 2020 إلى 990 مليون دولار في عام 2021 ويرجع ذلك أساساً إلى انخفاض العجز التجاري بعد تبني سياسات إصلاح سعر الصرف وتحسن مستوى التحويلات الخارجية.

اقرأ ايضاً :

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى