لقاء القاهرة الأخير: مصر والبرهان.. تحالف الانقلاب وصراع المصالح الإقليمي
القاهرة: حمدوك يجب أن يرحل

تحليل خاص | برق السودان
في الساعات التي سبقت فجر الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، كانت الخرطوم على أعتاب أكثر الانعطافات السياسية حدة منذ سقوط نظام البشير. وبينما انشغلت العواصم الغربية بمتابعة الحوار الهش بين المكونين المدني والعسكري في السودان، كانت العاصمة المصرية القاهرة تستقبل ضيفًا استثنائيًا — قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان — في زيارة سرية لم يُعلن عنها حينها، لكنها شكّلت، بحسب تقرير وول ستريت جورنال، نقطة التحوّل الفعلية في مصير المرحلة الانتقالية السودانية.
ما كشفه التقرير الأميركي لم يكن مجرد لقاء بروتوكولي بين رئيسين، بل عملية تنسيق استخباراتي وسياسي دقيقة جرى خلالها تبادل الضمانات والدعم، لتجد السودان نفسها بعدها بأيام قليلة أمام انقلاب عسكري أنهى تجربة التحول المدني، وأعاد البلاد إلى مربع السيطرة العسكرية المطلقة.
كانت مصر ترى في حمدوك نموذجًا مقلقًا مدني مستقل ومنفتح على التفاهم مع إثيوبيا في ملف سد النهضة
خلفية اللقاء: لحظة الانعطاف بين واشنطن والقاهرة
قبل ساعات فقط من رحلته إلى القاهرة، التقى البرهان، المبعوث الأميركي إلى السودان، جيفري فيلتمان، وأبلغه صراحة بأنه لا ينوي الاستيلاء على السلطة. غير أن تحركات البرهان اللاحقة، كما تروي الصحيفة، كشفت عكس ذلك تمامًا.
ففي القاهرة، وجد الرجل دعمًا كاملاً من الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يعرف أكثر من غيره معنى السيطرة عبر المؤسسة العسكرية.
هذا اللقاء لم يكن معزولًا عن السياق الإقليمي، بل جاء بعد زيارة سريعة لرئيس المخابرات المصرية اللواء عباس كامل، إلى الخرطوم، حيث التقى البرهان وتجنب عمدًا مقابلة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في إشارة إلى أن القاهرة كانت قد حسمت موقفها مسبقًا لصالح التيار العسكري داخل السلطة الانتقالية.
كانت مصر ترى في حمدوك نموذجًا مقلقًا: مدني، مستقل، ومنفتح على التفاهم مع إثيوبيا في ملف سد النهضة، وهي معادلة تتناقض تمامًا مع المصالح الاستراتيجية المصرية التي تسعى لفرض اصطفاف إقليمي ضاغط على أديس أبابا.
بالنسبة للمخابرات المصرية، كان حمدوك “الخطر الناعم” الذي قد يُعيد تعريف علاقة السودان بمحيطه، لذلك لم يكن مستغربًا أن تُوجَّه النصيحة للبرهان بعبارة حاسمة: “حمدوك يجب أن يرحل.”
حمدوك «الخطر الناعم» الذي قد يُعيد تعريف علاقة السودان بمحيطه
المخابرات المصرية
الدوافع الاستخباراتية والسياسية للقاهرة
ترى القاهرة في السودان امتدادًا طبيعيًا لمجالها الأمني، لا سيما في ضوء التحديات التي تفرضها جغرافيا النيل والقرن الأفريقي. منذ سقوط البشير، كان هناك إدراك مصري بأن أي تحول ديمقراطي حقيقي في السودان سيُنتج حكومة مستقلة، قادرة على صياغة سياسة خارجية لا تخضع لإملاءات القاهرة.
بالنسبة للنظام المصري الذي يحكم بقبضة عسكرية منذ 2013، فإن قيام ديمقراطية مستقرة على حدوده الجنوبية يشكل تهديدًا أيديولوجيًا وأمنيًا معًا.
من هذا المنطلق، فإن دعم الانقلاب في السودان لم يكن تحركًا تكتيكيًا، بل خطوة استباقية لضمان بيئة سياسية مأمونة في الخرطوم، بيئة تحافظ على مصالح مصر في ملفات ثلاثة مركزية:
1. سد النهضة: حيث أرادت القاهرة أن تضمن أن الموقف السوداني سيبقى متناغمًا مع رؤيتها الرافضة لأي خطوة إثيوبية أحادية.
2. العلاقات مع إسرائيل: إذ رأت المخابرات المصرية أن حمدوك متردد في الانخراط العميق ضمن محور التطبيع، ما قد يُضعف شبكة التعاون الإقليمي التي تسعى مصر لترسيخها.
3. الاستقرار الحدودي: فوجود سلطة عسكرية موالية في الخرطوم يسهّل إدارة القضايا الأمنية المشتركة، من الحدود إلى ملف الهجرة غير الشرعية.
هذه المصالح مجتمعة جعلت من الانقلاب مشروعًا سياسيًا يخدم القاهرة بقدر ما يخدم نخبة الخرطوم العسكرية. ومن ثمّ، لم يكن غريبًا أن يخرج الانقلاب في توقيت بدا محسوبًا بعناية، بعد أن ضمنت مصر — عبر قنواتها الاستخباراتية — أن الموقف الدولي لن يتجاوز حدود الإدانة الدبلوماسية.
ما وراء التحالف: منطق السيطرة الإقليمية
لم يكن لقاء البرهان والسيسي مجرد تنسيق بين جيشين، بل تمثيلًا أوضح لمدرسة الحكم التي ترى أن الديمقراطية تهديد، وليست حليفًا.
فمصر التي دعمت انقلابها عام 2013، بدعم خليجي كثيف، نقلت تجربتها تلك إلى جنوب الوادي بصيغة مختلفة: دعم الانقلاب السوداني كمحاولة لإغلاق بوابة التحول المدني قبل أن تترسخ جذوره في المنطقة.
التحالف بين البرهان والسيسي ليس تحالفًا شخصيًا بقدر ما هو التقاء لمصالح الأجهزة الأمنية. كلا النظامين يعتمدان على منطق البقاء عبر القوة، لا عبر التفويض الشعبي، وكلاهما يرى في النظم المدنية خطًا أحمرًا قد يُعيد هندسة موازين السلطة في المنطقة بأكملها.
هذا التداخل الأمني الاستخباراتي يفسر أيضًا صمت القاهرة العلني بعد الانقلاب، وامتناعها عن إدانة الخطوة أو دعم موقف القوى المدنية، مفضّلة الاكتفاء بعبارات فضفاضة عن “استقرار السودان ووحدته”، بينما كانت أجهزة استخباراتها تعزز قبضتها عبر التنسيق الميداني والرسائل الدبلوماسية الهادئة.
الانقلاب كأداة لضبط الإقليم
تكشف تفاصيل ما حدث في أكتوبر 2021، أن الانقلاب لم يكن قرارًا داخليًا خالصًا، بل حلقة في شبكة أوسع من الصراع الإقليمي على النفوذ.
لقد اختارت القاهرة أن تُضحّي بتجربة السودان الانتقالية مقابل حماية نفوذها، معتبرة أن ديمقراطية حقيقية في السودان قد تفتح الباب أمام مطالب إصلاحية مشابهة في الداخل المصري.
إلا أن هذه السياسة، وإن ضمنت للقاهرة مكاسب آنية، خلّفت في المقابل جرحًا عميقًا في العلاقة بين الشعبين، وزادت من هشاشة الدولة السودانية التي أصبحت ساحة مفتوحة لصراعات المحاور.
الدرس الأبرز هنا أن السيادة لا تُنتزع بالشعارات، بل تُحمى بإرادة سياسية مستقلة وبمؤسسات قادرة على مقاومة الضغوط الخارجية.
أما مصر، فستبقى في نظر الكثيرين القوة التي تُعيد إنتاج الانقلابات في ثوب “الاستقرار”، حتى وإن كان ثمن ذلك إجهاض أحلام السودان في التحول الديمقراطي الحقيقي.