الأخبار

“اللوري” السوداني… ذاكرة الفرح والفراق

الخرطوم | برق السودان

اكتسب “اللوري” وهو سيارة للنقل الثقيل إنجليزية الصنع في الأساس أهمية كبرى في السودان بمساحته الشاسعة عندما كان يسمى أرض المليون ميل مربع قبل انفصال الجنوب، حيث يجوب بساطها الأخضر تارة والأجدب تارة أخرى، ويقطع الفيافي الممتدة من الصحراء الكبرى في الشمال بشقيها “العتمور” و”بيوضة” حتى تلتحم بالصحراء الليبية في أقاليم كردفان زدارفور، ولا توقفه التلال الرملية في مناطق ديار البرتي والزيادية، ولا الكثبان الرملية المتفرقة ولا الوديان المتعرجة.

ينداح “اللوري” في سهول السافانا الفقيرة والغنية، مجتازاً تربة منطقة الجزيرة المروية الطينية، غير هياب عندما تفاجئه التضاريس المرتفعة. وبدخول ماركات جديدة أصبح “اللوري” نجم وسائل النقل خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، أما السائق، فهو العارف بتضاريس وجغرافيا الأقاليم التي يتنقل فيها وبإمكانه السفر من مدينة حلفا في أقصى الشمال إلى نمولي في الجنوب، ومن مدينة بورتسودان الساحلية شرقاً إلى الجنينة في دارفور غرباً من دون أن يضل الطريق أو يضيع في الصحراء.

كان “اللوري” أحد أهم وسائل المواصلات والنقل والشحن إلى جانب القطارات التي كانت محدودة بخطوط بين مدن معينة وقد لا تصل إلى كل أجزاء السودان، بينما يفوقها هو بمقدرته على سلوك كل الطرق والفيافي، رابطاً بين المدن والقرى، لذلك كان أثره الاقتصادي يتفوق على غيره من وسائل النقل، إذ كان ينقل الركاب داخل السودان إلى دول الجوار، كما كان ينقل البضائع، إضافة إلى آثاره الاجتماعية والفنية التي حكى عنها محبو السفر والتنقل في حقب مختلفة.

ولـ”اللوري” لحن خاص يعزفه السائق عبر بوقه يسمى محلياً “البوري” لدى وصوله إلى منطقة معينة لتنبيه أهلها بوصول أقربائهم أو البضائع مثل السكر والشاي وغيرهما. كما ينقل الرمل والتراب لأغراض البناء وعلف المواشي والحطب والسعف ومنتجات المزارع.

وابور جاز

يعود عمر استخدام “اللوري” في السودان لأكثر من مئة عام منذ جلبه المستعمر البريطاني إلى الخرطوم في 1918 من مدينة بيدفورد شرق إنجلترا، حيث كانت تصنعه إحدى الشركات التابعة لـ”جنرال موتورز”.

وذكر الشيخ بابكر بدري في كتابه “تاريخ حياتي” أنه “زار رفاعة فريق من ضباط الجيش الذي حارب بالميدان الغربي في فرنسا، حيث جاء الضباط محمولين على لوريات (سيارات ناقلات جنود)، وكانت تلك المرة الأولى التي نرى فيها هذه الشاحنات”.

كما يقول الباحث الأنثروبولوجي مبارك حتة “ظهر (اللوري) في الحياة السودانية خلال فترة الاستعمار، وكان يأتي عن طريق ميناء بورتسودان في ولاية البحر الأحمر ويدخل بكابينة فقط (رأس) ويتم تصنيع صندوق له بواسطة ورش متخصصة في تركيب الحديد الذي يتوافق مع حجم (اللوري) ووظيفته سواء في نقل الناس أو البضائع أو الدواب إلى أماكن متفرقة في السودان”.

وذكر أن “اللوري” في السودان يحمل تفاصيل الحنين إلى حقبة القرن الماضي، فعلى رغم الحداثة التي طاولت وسائل النقل فإنه ظل ولا يزال يواصل رسالته بين مدن وقرى السودان المختلفة، فهو نبض وريد يضخ في جسد التواصل السوداني وحلقة وصل اجتماعية لم تنقطع إلى الآن.

أما الكاتب الصحافي الصادق عبدالله، فأورد أنه “بدأ انتشار الشاحنة (وابور الجاز) في العالم بعد أن استخدمت في الحرب العالمية الأولى لنقل الجنود في المعارك، ثم حققت انتشارها في الحرب العالمية الثانية، خصوصاً في أفريقيا، وسميت في السودان في البدء ’وابور جاز‘، إذ كان محركها قبل الديزل يسير بقوة البخار، لذا سماها السودانيون هذا الاسم”.

حكاية متحركة

يقول الباحث الأنثروبولوجي حتة “قبل ظهوره كانت وسيلة النقل والتنقل داخل السودان هي الدواب، لا سيما الجمال التي كانت تنقل الأغراض لمسافات بعيدة. كما كان أهل كردفان يعتمدون على الأبقار في التنقل والترحال الموسمي. ومع التطور أخذ ’اللوري‘ موقعه كناقل وسيط يوفر الجهد والزمن ويقطع المسافات بسرعة مدهشة في ذلك الزمان، فقبل ظهور المواصلات الحديثة المتعارف عليها كان ’اللوري‘ سيد ساحات النقل”.

وعن تفضيلات السائقين، قال حتة “ماركات بعض الشركات وجدت قبولاً، وأفضلها الماركات الإنجليزية ’بيدفورد‘ والألمانية الممثلة في شركة ’مرسيدس‘ لقوتها ومقدرتها على اجتياز الرمال في شمال السودان وغربه واليابانية ’تويوتا‘ و’نيسان‘ كما أنها تتوافق مع المناطق الطينية في إقليم النيل الأزرق وولاية سنار إضافة إلى ولاية الجزيرة”.

وذكر أن لـ”اللوري” تسميات أخرى إذ يطلق عليه في كل منطقة اسم محلي، لكن الاسم السائد والمعروف لدى السودانيين هو “حاج الصديق”، وأضاف “هناك أيضاً ’لوري المزاورية‘ وهو من أهم اللواري في مدينة بورتسودان والوحيد الذي يبقى في محيط المدينة فقط من دون سفر بعيد، فهو يدخل ميناء بورتسودان ليخرج بالبضائع إلى المخازن أو إلى الجمعيات التعاونية في المدينة”.

ولفت إلى أن “اللوري” يجسد حكاية متحركة من مكان إلى آخر ووسيلة نقل تضعف معها حتى زمان قريب خيارات النقل الأخرى، فهو يحمل الإنسان والماشية وحتى الطيور مثل الدجاج الذي يجلب من الأرياف إلى المدن.

بيئة المكان

ومثل وسائل النقل الأخرى يتوافر لـ”اللوري” طاقم يتكون من “مساعد لوري” و”مساعد حلة” فضلاً عن السائق، يبين حتة “أما الأول، فمهمته كبيرة وشاقة فهو الذي يقوم بتشحيم ’اللوري‘ وغسله ومراجعة تفاصيله وتركيب الصاجات (حديد يوضع بين كفرات اللوري والرمال كي لا يوحل)، وأما الثاني، فهو الذي يعد الطعام خلال الرحلة وفي معظم الأحوال يتم شراء وذبح كبش وإعداده وتناوله خلال الاستراحة تحت ظلال الأشجار، أو تحت ظل ’اللوري‘ إن كانوا في صحراء أو في الخلاء الفسيح”.

وأضاف “عادة تتفنن الورش في صناعة مقدمة ’اللوري‘ بشكل جاذب ويعلو المقدمة صندوقان موزعان بالتساوي على طرفيه، أحدهما لحفظ مفاتيح إصلاح الأعطال والآخر بمثابة خزنة مطبخ تضم مستلزمات الطعام من بهارات وأوان”.

وتابع حتة “للمناخ دور كبير في طول العمر الافتراضي لـ’اللوري‘، ففي بورتسودان مثلاً بوصفها مدينة ساحلية يصنع الصندوق الخارجي من الخشب على قواعد من الحديد، لأن الرطوبة عالية في المنطقة وللأخشاب قدرة على الامتصاص بينما الحديد معرض للصدأ والتآكل. أما في بقية مناطق السودان، فيصنع الصندوق من الحديد ويتم مسحه بالغازولين باستمرار ليحافظ على تماسكه ويزيد عمره الافتراضي”.

واستطرد “يتم إعداد ’اللوري‘ بزينة تميزه عن غيره من نقش ورسومات تحاكي بيئة المكان أو مسقط رأس السائق وهي عبارة عن رسومات تحكي قصة على حديد المركبة. فإذا كان (اللوري) من منطقة الشمال تغلب على الرسم أشكال النخيل وبعض الطيور، وإذا كان من الغرب تكون رسومات الجبال حاضرة”.

ناقل الفرح

وسلط الباحث الأنثروبولوجي الضوء على أجواء الأفراح المتعلقة بـ”اللوري” قائلاً “ارتبط في ذاكرة السودانيين الاجتماعية بسيرة الزفاف من قرية إلى أخرى حيث كان الناقل الرئيس وتجسد حركته فرحة ونشوة ممزوجة بأجواء الحدث السعيد، خصوصاً عندما يختلط صوت بوقه بما يصدح به المغنون. وعادة ما كانت الزفة تبدأ في وقت العصر من دار العريس حتى تصل إلى أهل العروس الذين يستقبلونها بالأغاني والزغاريد عندما يعلن بوق ’اللوري‘ وصول السيرة”.

وكما ارتبط “اللوري” بالأفراح والبشائر والخير فإن صوته الآتي من بعيد ارتبط بالحنين، ويفسر حتة ذلك بأن “صوت محركه وبوقه المسموع من بعيد بينما يخترق الطريق يذكر كثيرين بذكرى عزيزة أو بحبيب غائب. وإضافة إلى توصيل المؤن والبضائع والتموين التي ينتظرها أهالي القرى البعيدة، فإنه يحمل أيضاً رسائل المحبين والأبناء البعيدين إلى ذويهم الذين ينتظرونها بلهفة وشوق”.

لهذا خلد المغنون السودانيون الأغنيات المرتبطة بـ”اللوري” عبر الأزمنة ولا تزال تغنى حتى الآن في معظم مناطق البلاد بلهجاتها المحلية. ففي الشرق اشتهرت أغنية لقبائل البجا عن “اللوري” تحمل كلماتها مفردات البيئة المحلية مثل القهوة التي تصنعها المحبوبة وأنها تساوي الدنيا بحالها، ثم تعرج الأغنية على ما جاء في كتاب بدري السالف ذكره عن أول دخول لـ”اللوري” (وابور حربي بجيشه) ناقلاً جنود المستعمر. كما ظهر في التراث الغنائي بمناطق أخرى مثل كردفان وشمال السودان ومنطقة الجزيرة وغيرها.

بهجة عفوية

كان “اللوري” ملهماً للمغنين والشعراء الشعبيين ومنهم شعراء “الدوبيت” الذين حكوا في أغنياتهم وأشعارهم عن السمر في هذا النوع من الرحلات، والطرب والفن المرتجل والبهجة العفوية التي تشيعها مثل هذه الأجواء، بيد أن الأجمل هو ما أورده الأديب السوداني الطيب صالح في رائعته “موسم الهجرة إلى الشمال” في أحد أسفاره بـ”اللوري”، يقول صالح “حططنا رحالنا كما تحط أية قافلة رحالها. طعمنا وشربنا. صلى أناس العشاء. والسواق ومساعدوه أخرجوا من أضابيرهم قناني الخمر. وأنا استلقيت على الرمل وأشعلت سيجارة وتهت في روعة السماء. والسيارة أيضاً سقيت الماء والبنزين والزيت. وهي الآن ساكنة رابضة كمهرة في مراحها. وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة. في ليلة مثل هذه تحس أنك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلم من الحبال. السواق الذي كان صامتاً طول اليوم ارتفعت عقيرته بالغناء. صوت عذب سلسبيل لا تحسب أنه صوته. يغني لسيارته كما كان الشعراء يغنون لجمالهم”.

المصدر: اندبندنت

اقرأ ايضاً :

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى